بقلم: سامي كمال الدين
زهرة الصبار التي تشبث بها السرطان سنوات خمس، وظل في عراك متوال معها، يهزمها مرة فتهزمه مرات.. لم يتحول أملها إلى ملل وظل يقينها بالله ثابتاً لم يزحزحه مرضها، ولا مرض زوجها الزميل أحمد نصر الدين، الذي أصيب بشلل شبه تام بعد حادث سيارة، فآزرته وساندته ووقفت بجواره، ورغم إصابتها بالسرطان وتحملها مسؤولية أولادهما الثلاثة، إلا أن عزمها لم يلن، ولا تخلت عن دورها كأم، ولا دورها كصحفية في شبكة الجزيرة الإعلامية، ولا دورها كشاعرة وأديبة، ظلت روحها العذبة تتنقل كالفراشة بين هموم الحياة وألامها وتتحملها برضاء تام بقضاء الله وقدره.
حين قامت ثورة يناير كانت حنان كمال وزوجها يعملان في قناة العربية في دبي، وهنا قررا المغادرة إلى حضن أمهما مصر العظيمة، ولأجل محبتها هان كل شيء، لكن القدر كان يخفي لهما ما لم يتوقعانه، ضاقت الأرض بما رحبت عليهما، أصيب زوجها في حادث، واكتشفت هي عام 2013 إصابتها بمرض السرطان، بعد إهمال وجهل طبيب ذهبت إليه لإحساسها بآلام في ثديها فطلب منها إجراء الأشعة، والأشعة قالت إنها مصابة بالسرطان، بينما الطبيب يقسم بالله ويؤكد لها أنها آلام بسيطة، وكتب لها روشتة مضادات حيوية تعاطتها، ثم عادت إليه ليصرف لها مضادات حيوية جديدة، وبعد فترة ذهبت لطبيبة متخصصة لتكتشف متأخرا إصابتها بالسرطان!
كما الكثير من المواهب، انتقلت حنان لتكمل عملها في قناة الجزيرة، فسافرت من مصر في محاولة لتحقيق ذاتها، وتوفير حياة آمنة لولدها وبنتيها، وتوفير مصاريف علاج زوجها.. إنها المرأة الجبل، التي استمدت عزمها وصلابتها من جدودها في الصعيد، فكانت المرأة الملهمة في تجربتها، المتحملة لألمها وعملها وبيتها وزوجها المريض، وفوق هذا تنتج قريحتها الشعرية ديوان شعر صدر عام ٢٠١٨ وهو « كتاب المشاهدة»، الصادر عن دار ميريت، لتأتيها نسخة وهي في منفاها الاختياري في الدوحة، حيث عاشت حنان في قطر آخر أيام عمرها، وأسلمت الروح لله في مستشفى حمد العام.
بين حنان التي كنت أراها في صالة الأخبار في الجزيرة مباشر، وحنان التي في النعش أمامي أصلّي عليها مع مئات المحبين والزملاء سنوات لا تختصرها الكلمات، فهي الحاضرة مثل زهرة ورد بلدي يملأ عبقه كل مكان وجدت فيه، وهي المبهجة كعصفورة تزقزق فتملأ الأجواء، تنام الآن في محراب المسجد للصلاة عليها وتوديعها، لتذهب وتدفن في وطنها مصر.
بقي أبناء حنان في قطر حتى لا يضيع عليهم عامهم الدراسي، وسط أحبة وأصدقاء وإخوة لها، ليعودوا إلى مصر في الصيف، ولكم كنت أتمنى أن يعيش أولادها في قطر ليحصلوا على قسط أكبر من التعليم، وليكملوا حياتهم التعليمية بنفس المستوى الذي تعلموا به، خاصة أن والدهم -شفاه الله- مصاب بمرض يعيقه عن ممارسة حياته الطبيعية معهم.
وربما هي المرة الأولى التي يجتمع ويتفق الجميع في مصر على محبة شخصية، فالذين يؤيدون النظام والذين يرفضونه، النظام والإخوان والقوى المدنية، وجميع التيارات المصرية توافقت على حب حنان كمال، فكانت السوشيال ميديا تؤازرها طوال فترة مرضها، وحزن الجميع يوم رحيلها.
يقدر الله يا حنان، ويكتب لنا خطواتنا قبل أن نولد، هكذا هي الحياة تأتينا دون إرادة منا، وتأخذنا دون إرادة منا أيضاً، ولا أدري كيف أقول لك ذلك، وأنت من قلت: «يدللنا الله في ملكوته؛ لأنه في الأصل كان الحب، ويخلق لنا كوناً لا متناهي الجمال، لكننا لا نلتفت له، نخلق في أذهاننا تصوراً للعقاب بنار جهنم، دون أن نلتفت أنه قبل النار كان هناك الكثير من المحبة لكننا خجلنا أن نمد يدينا لها.
تقول لي ابنتي الصغيرة سارة، إن لا أحد يسبق أحداً، ولا أحد يقف في الصف الأول على الإطلاق، أتعلمين لمَ يا ماما؟ لأن الأرض كرة دائرية لا يوجد بها صف أول، انتبه للحكمة التي أدركتها ابنة الثماني سنوات ولا يدركها هؤلاء الذين يلهثون في سباق نحو الصف الأول، تقول لي: وتعرفين أيضاً، لا أحد يسبق أحداً، أتعلمين لماذا؟ لأن كل إنسان له مساره الخاص.
هل ورثت جينات الزهد من والديها، أم أنها امتلكت الحكمة، أدركتْ ابنتي أن كل هذا السباق اليومي نحو اللاشيء يستهلك البشر، كل يوم في رحلتك حتى تثبت للآخرين أنك الأفضل، وبالأساس لا يوجد من هو أفضل، كلنا زهور في ملكوت الرب كان يفترض بعيوننا أن تتطلع نحو السماء، تتغزل في زرقة السماء، أو تهتز جزلاً حين تداعبها نسمات الهواء.
يدللنا الله كل يوم، ونحن لا ندرك جمال نعمة محبته لنا؛ لأننا مشغولون في سباق اللاشيء، أو لأننا خائفون من الغد أو من الجحيم، أو من النار، نظن أننا نبجل الله ونجله ونقدسه حين نخلق مسافات بيننا وبينه، بينما وهو الغني عنا، أقرب إلينا من حبل الوريد، وفي هذا قمة الدلال والجمال الممنوح من رب لعبده.
وأنت أيضاً من قلت في مقدمة ديوانك الشعري «كتاب المشاهدة»: أعرف الموت، التقيته هذا الصباح، فأخبرني أن أمي هناك، ستطهو لي وجبتي المفضلة، وأراني حقل الفراشات الذي، سيسحر عيني حتى أنسى ألم العبور، وفتح لي بابًا، كي آنَسَ بابتسامة صديقتي التي سبقتني إلى هناك.
أعرف الموت ويعرفني، فأنا الوحيدة التي لا تفقد مرحها، حين يقترب، ما يجعله يرتبك، ويصير غير قادر على اتخاذ القرار.
أضف تعليقك