بقلم.. فراس أبو هلال
لا جديد في عدوان الاحتلال على غزة خلال اليومين الماضيين، فالعدوان والعنف والقتل هو أمر متوقع من الاحتلال بحكم طبيعته العنصرية والدموية، وهي طبيعة يفهمها الفلسطيني الذي يكتوي بنار هذا الاحتلال منذ عقود، ويفهمها أيضا العربي الذي لا يزال على "عربيته"، ويفهمها الإنسان الذي لا يزال يحتفظ بإنسانيته وآدميته.
لا جديد أيضا في أن هناك "نخبا عربية" لم تكن يوما مع فلسطين قلبا وقالبا، وأنها تتمنى أن تستيقظ صباحا وقد اختفت فلسطين وشعبها، بحجة أن قضية فلسطين عطلت نمو أوطانها، وهي ذريعة يستخدمها العاجز الذي فشل في التنمية وفي تحقيق "الحكم الرشيد" لأسباب ذاتية لا علاقة لفلسطين وقضيتها وشعبها فيها.
أما الجديد، فهو تصاعد "نقيق" هذه "النخب" التي كانت تخجل سابقا من نشر مواقفها الحقيقية من فلسطين، فإذا بها تجد في الظروف السياسية الراهنة فرصة للتعبير عن معاداتها للخط الشعبي العربي العام المؤيد لفلسطين وقضيتها، وإذا بأصواتها النشاز تزداد ارتفاعا خصوصا في أوقات عدوان الاحتلال على غزة.
ظهرت بعض هذه الأصوات بشكل "خجول" أثناء عدوان عام 2008/2009 على غزة، ثم صارت تتصاعد مع كل عدوان جديد، لكنها وصلت إلى ذروتها منذ سنتين لأسباب تتعلق بخسارة الثورات الشعبية العربية أمام الثورات المضادة وبتراجع التأثير الشعبي في السياسة العربية، وتصاعد التوحش لدى أنظمة القمع؛ ما أفسح المجال أمام الأصوات النشاز المنسجمة مع التيار الرسمي، وحجب بالمقابل الأصوات الشعبية المعبرة عن ضمير الأمة العربية في غالبيتها العظمى.
في موسم الهجوم "العربي"- ونضع كلمة عربي بين قوسين لأن هذه الأصوات لا تعبر عن غالبية الشعوب العربية- يصبح المسؤول عن الحروب والاعتداءات الصهيونية هو الفلسطيني، وللابتعاد عن اتهام الفلسطيني بهذه الفجاجة فإن ما يتم هو الترميز أو التشفير من خلال اتهام "المقاومة" بالمسؤولية عن الحرب، وعن الويلات التي يقاسي منها الشعب الفلسطيني في غزة.
ويهدف هذا الخطاب البائس للتفريق بين الشعب الفلسطيني ومقاومته، وكأن المقاومة كائنات فضائية من خارج فلسطين، وكأن الشعب الفلسطيني العظيم مختطف من جماعات خارجية، وهو منطق لا يفهم أن هذا الشعب يمارس النضال قبل عقود من تأسيس أول فصيل مقاوم، ولا يفهم أيضا أن الاحتلال هو المسؤول الأول عن العدوان وعن كل ما يعانيه الفلسطينيون في غزة وغيرها من أماكن تواجده داخل الوطن وفي الشتات.
هذه الأصوات التي تحاول الاستفادة من المناخ الرسمي السائد في المنطقة حاليا تصادم غالبية الشعوب العربية، لأن هذه الشعوب -وإن خفت صوتها- فإنها تؤمن بأغلبيتها الساحقة بالقضية الفلسطينية
ويتفق خطاب التفريق بين الشعب الفلسطيني ومقاومته تماما مع المنطق الصهيوني، الذي يبرر عدوانه على المدنيين والبيوت الآمنة بأنه استهداف للمقاتلين الذين "يختطفون قرار الفلسطينيين"، والذي يوجه دعاية مستمرة تهدف لإظهار المقاومة الفلسطينية وكأنها معزولة عن شعبها وآلامه ومعاناته.
وإذا حاكمنا هذا الخطاب "العربي" المتصهين أمام التاريخ والمنطق السياسي، فإننا سنصل إلى أنه خطاب ساقط منطقيا إضافة إلى سقوطه الأخلاقي، لهذه الأسباب:
أولا: يقول الذين يتهمون المقاومة بالمسؤولية عن الحرب في قطاع غزة إن القطاع قد تحرر، وأن المقاومة هي التي منعت الاستفادة من هذه الحرية بسبب احتكاكها واستفزازها لجيش الاحتلال، ويتغافل هؤلاء عن حقيقة أن القطاع -وإن كان قد تحرر من الوجود العسكري على أرضه- إلا أنه لا يزال محتلا بحكم سيطرة الاحتلال على سمائه وبحره ومعابره، ومن خلال منعه من إقامة ميناء أو مطار يضمن استقلاليته، وهو ما يعني أن الاحتلال هو المسؤول الأول عن حصار القطاع وقتل أهله وليس المقاومة التي تحاول على الأقل تحسين شروط هذا الحصار.
ثانيا: يتناسى أصحاب هذا الخطاب أن غزة هي جزء من فلسطين، وأن خروج الاحتلال منها لا يعني نهاية الصراع معه ما دام يحتل بقية الأرض الفلسطينية، وأن العلاقة الطبيعية بين الشعب المحتل ودولة الاحتلال هو المقاومة.
الاحتلال في أي مكان أو أي زمان هو المسؤول عن معاناة الشعوب المحتلة وليس المقاومة التي تحاول استرداد حرية هذه الشعوب، وبهذا المنطق فإن الاستعمار الفرنسي مثلا للجزائر هو المسؤول عن الضحايا والشهداء الذين سقطوا بمئات الآلاف وليس المقاومة التي كانت تدافع عن حق هؤلاء الملايين بالعيش في حرية في وطنهم، وهو نفس المنطق الذي ينطبق على الفلسطينيين وعلى أي شعب واقع تحت الاحتلال.
ثالثا: حتى بالمنطق المرحلي وليس بالمنطق التاريخي الشامل، فإن هذه الأصوات المتصاعدة في "موسم الهجوم على غزة" تتجاهل أن معظم الحروب العدوانية على غزة كانت بمبادرة من الاحتلال، وبسبب تنفيذه لعمليات اغتيال أو قصف أو خرق للهدنة مع الفصائل الفلسطينية.
ويبقى القول إن هذه الأصوات التي تحاول الاستفادة من المناخ الرسمي السائد في المنطقة حاليا تصادم غالبية الشعوب العربية، لأن هذه الشعوب -وإن خفت صوتها- فإنها تؤمن بأغلبيتها الساحقة بالقضية الفلسطينية، وإذا كان تقدم الثورات المضادة قد أفسح المجال لمثل هذه الأصوات بالعلو، فإن الشعوب العربية في النهاية هي التي سوف تبقى، وهي التي تعرف من يقف في خندقها ومن يمارس خطابا صهيونيا بلغة "عربية" فصيحة!
أضف تعليقك