بقلم.. عبد الله الخباص
مريح للنفس أن تجد هذا العدد الكبير من الناس (أنصارا ومخالفين) يترحمون على هذا الرجل الطيب المتواضع، ويعددون فضائله وخصاله، وهذا نوع من الاصطفاء خصه الله به (رحمه الله).
- آلمني شخصيا أنني لم أستطع أن أشارك في صلاة الجنازة على أستاذنا الكريم، ولن أستطيع المشاركة في تعزية ذويه مباشرة بسبب كسر في الكاحل هذه الأيام، استدعى عملية جراحة تحول دون الحركة ( بسبب الجبص الثقيل).
وقد كتمت وضعي الصحي عن كثير من الأحباب، ولكنني مضطر أن أعلن ذلك على الملأ، ليعرفوا جميعا كم هو صعب على مثلي ألا أكون قريبا من أبناء وذوي المرحوم الدكتور عبد اللطيف عربيات، الذي شكّل بالنسبة لي نموذج قدوة متميزا، إلى جانب توأم روحه الدكتور إسحق الفرحان رحمه الله. وشاءت إرادة الله أن يلحق بصاحبه وحبيبه (وحبيبنا أيضا) بعد أقل من عام، إذ رحل الدكتور إسحق الفرحان يوم الجمعة أيضا في 6/7/2018.
- في يوم السبت 16/2/1985 أصبحت عضو مناهج لمبحث اللغة العربية في مديرية المناهج بوزارة التربية والتعليم، وكان الدكتور عبد اللطيف أمينا عاما لوزارة التربية والتعليم. أشهد أنه كان آنذاك نموذجا للمسؤول المتواضع الحازم في آن واحد.
كنا آنذاك نشهد بحسن خلقه، ولكننا كنا نرى بأم أعيننا أن كبار موظفي وزارة التربية لا يجرؤون على الدخول إلى قاعة الاجتماعات في الوزارة بعد أن يقفل الدكتور عربيات الباب خلفه، مكررا للجميع عبارته المعتادة "الوقت هو الحياة"، وداعيا الجميع إلى احترام وقت الآخرين إلى حد القداسة!
- عملت في معيته في مواقع تربوية مختلفة (كلها تتعلق بالتربية والمناهج، لأنني أنا لا أتعاطى السياسة، وكان ينكر علي ذلك، ويداعبني بابتسامة عذبة دائما: ماذا تتعاطى إذن؟).
وكان ينتصر لي (في غالب الأحيان) التربوي العملاق الدكتور إسحق، ويقول له: اتفقنا على أن يتعاطى عبد الله المناهج دون غيرها، فيصبح وضعي آمنا بعدها. وقد عملنا طويلا (معه ومع الدكتور إسحق والأستاذ فاروق بدران، أمدّ الله في عمره) في جمعية الدراسات والبحوث الاسلامية وجامعة الزرقاء في التأليف والإشراف على التأليف، أشهد له خلال ذلك كله بالنظرة الثاقبة والرأي السديد، والعلم الغزير، واحترام وجهة النظر الأخرى، مهما يكن مخالفا لها، وهذا شأن العلماء الكبار والمتميزين.
- في نهاية التسعينيات (1999م) عُينت عميدا لكلية الآداب في جامعة الزرقاء، وبقيت في هذا الموقع مدة سبعة أعوام ( حتى عام 2006). كان خلال تلك الفترة الدكتور عبد اللطيف عربيات رئيسا لمجلس الأمناء، والدكتور إسحق رئيسا للجامعة، وكانت طبيعة الموقع تقتضي الخلاف أحيانا (في القضايا الإدارية وتعيينات أعضاء هيئة التدريس وغير ذلك). وأشهد بين يدي الله، بعد أن رحل الدكتور إسحق والدكتور عبد اللطيف، أن كلا منهما كان نموذجا يحتذى في احتواء وجهات نظر شاب من جيل أبنائهما (رغم تشبثي برأيي في كثير من الأحيان)، وأشهد أن تعامل كل منهما كان يرتقي إلى ما هو فوق نموذج الاقتداء، وإن لم تخل بعض جلسات النقاش من تعريض مهذب من الدكتور عبد اللطيف (موجها الكلام للدكتور إسحق: انت يا دكتور اسحق تدلل عبد الله كثيرا)، وينتهي الأمر بابتسامة عذبة من الجميع، تنتهي أحيانا (أقول أحيانا) باتخاذ القرار الموافق لوجهة نظرهما، دون أن أشعر أنني مقهور أو مغلوب على أمري، مع أن لديّ شواهد كثيرة يعرفها أساتذة الجامعات الخبراء، ومؤداها كيف تملى القرارات من رؤساء مجالس الأمناء ورؤساء الجامعات على العمداء وعليهم التنفيذ. ولكنني أشير بعد وفاتهما (رحمهما الله) إلى أننا أمام ظاهرة فريدة كان يمثلها كل من الدكتور إسحق والدكتور عبد اللطيف، تقوم على الأدب الجم، والقرار الحازم، في إطار من احترام وجهة النظر الأخرى، لمن هو دونهم منصبا وموقعا إداريا.
- استضفت الدكتور عبد اللطيف عربيات في مكتبي (بعد استقالتي من الجامعة)، وكنا نتباحث في كيفية إنجاز بعض المشاريع التربوية التي اختار أصحابها أن يمثلهم الدكتور عبد اللطيف عربيات. ويهمني أن أنقل وجهة نظر أحد أبنائي (في ما جرى من مناقشات):
ما هذا؟ هل هذا هو الدكتور عبد اللطيف الذي شغل كثيرا من المناصب والمواقع ويتعامل معنا بكل هذه البساطة والعفوية؟
فقلت: هذا الرجل وأمثاله يلتزمون بأخلاق الاسلام الحقيقية، ولا فجوة لديهم بين النظرية والتطبيق.
- واليوم أوجّه كلمة مختصرة للإسلاميين الذين يتغنون بشخصية الدكتور عبد اللطيف:
لقد حاز هو وأمثاله على ثقة الناس رغم التباين الفكري، وحافظوا على مبادئهم (دون إفراط أو تفريط) فهلا عرفتم الطريق القويم!!
الأمر يحتاج إلى تطبيق فعلي لا إلى تنظير، ليسهل الإنشاد مع الشاعر:
أولئك آبائي فجئني بمثلهم
إذا جمعتنا يا جرير المجامع
رحم الله الدكتور عبد اللطيف عربيات، وأسكنه فسيح جنانه، وتقبله في الصالحين.
أضف تعليقك