• الصلاة القادمة

    الظهر 11:01

 
news Image
منذ ثانيتين

بقلم: ياسر أبو هلالة

قبل غزو الذباب الإلكتروني منصّات التواصل في السودان، يمكن رصد المزاج الشعبي من خلالها بسهولة، فبمجرد أن نقلت مراسلة قناة سعودية على صفحتها خبر تقديم ملك السعودية مساعداتٍ للشعب السوداني، كانت ردود الفعل غاضبة، رافضة، وتدين وجود الجيش السوداني في اليمن. لم أجد تعليقا إيجابيا على الخبر، فما لا يدركه الحاكمون في السعودية والإمارات ومصر أن ثورات الربيع العربي، ومنها ثورة السودانيين، هي، في الأساس، ثورات كرامة ضد الاستبداد.عندما يرفع السودانيون شعار "اليمن ليست حربنا" فهذا يعني أن حربهم الحقيقية هي بناء بلدهم بعد عقود من التهميش والإفقار.

يحاول معسكر الثورة المضادة أن يحرف مسار الثورة، قبل مسار المجلس العسكري، وتأطيرها باتجاه تقديس حكم عسكري تابع لها، يشبه عبد الفتاح السيسي وخليفة حفتر. حسنا فعل المجلس العسكري عندما نسب رئيس اللجنة السياسية فيه فعلهم إلى عبد الرحمن سوار الذهب، ولكن تلك النسبة إدّعاء يحتاج إثباتا، وأوله استقلالية المجلس العسكري عن القوى الخارجية، فلا يُعقل أن يكون مدير مكتب البشير ورجله المطيع طه عثمان الحسين المتجنس بالجنسية السعودية ممثلا للسودان الجديد، لأنه يحمل حقائب المال السعودي الإماراتي. تماما كما لا يُعقل أن يكون الفريق القمعي الذي ساند البشير إلى آخر لحظة متصدّرا المشهد.

لا يقوم السودان الجديد بتقديس العسكر، ولا بتقديس الشارع. العسكر هم جسرٌ للعودة إلى الضفة الديمقراطية، فالبشير انقلب على حكومةٍ منتخبةٍ جاءت بانتفاضة شعبية. حرق المراحل وحكومة الميدان، هذا كلام لا يمكن تطبيقه. ولكن يمكن العودة إلى شخصيةٍ، مثل الصادق المهدي آخر رئيس وزراء منتخب، وبناء هيئة انتخابية دستورية تشرف على انتخاباتٍ نزيهة، وينقل المجلس العسكري، بشكل تدريجي، السلطة للمدنيين خلال عام.

ينتهي السودان الجديد عندما يفقد تسامحه، وينساق وراء دعوات الثورة المضادة الانتقامية، فدول الثورة المضادة، مصر والسعودية والإمارات، حالفت البشير وساندته في قمعه، وأرسل لها خمسة عشر ألفا، بينهم أطفال، ليحموا حدود السعودية ويقاتلون اليمنيين. وتلاشت خلفيته الإخوانية أمام وهج الدكتاتورية، ولم يجد مانعا في معانقة السيسي والتحالف معه، بعد مجازر رابعة، ولا في مساندة حكام السعودية والإمارات في حربهم المدمرة على اليمن.

يُبنى التحول الديمقراطي على قاعدة مانديلا "نغفر ولا ننسى". لا بد من توثيق كل جرائم نظام البشير، ومحاسبة القادة الذين باشروا القمع والقتل، ولكن ليس بعقلية "اجتثاث البعث" التي دمّرت العراق. عندما سقط النظام النازي حوكم مئتان من قادته، لكن البقية واصلوا عملهم في بناء ألمانيا بعد الحرب. علينا أن نتذكّر أن رئيس المجلس العسكري الحالي، عبد الفتاح البرهان، هو مؤسّس قوات الرد السريع، نائبه هو قائدها، وسمعتها في ملف حقوق الإنسان لا تسر. لكن هل الحل هو تفكيك الدولة وأجهزتها العسكرية والأمنية، أم في تصويب بوصلة الدولة؟

لا تقل تجربة الحركة الإسلامية في الانقلاب سوءا عن تجارب الشيوعيين والبعثيين والناصريين وغيرهم. العسكر مكانهم الثكنات، ولا يحق لهم خوض اللعبة السياسية إلا إذا تقاعدوا. وفي العدو الصهيوني عبرة، لم يتوقف جيشُه عن القتال، لكنه لا يتدخل بالسياسة. وعندما يتقاعد الجنرال تتسابق الأحزاب على اكتساب عضويته، طمعا بأصوات الناخبين. واجب الثورة تصفية الانقلاب لا تصفية الإسلاميين، لأنه لا يوجد طرفٌ في تاريح السودان لم يتورّط بالانقلاب، أو محاولة الانقلاب أو دعم الانقلاب على الأقل.

في الثقافة السودانية إرثٌ من السماحة أحوج ما تكون إليه في هذه الأيام، وهو تسامح المنتصر القادر، لا المهزوم الضعيف. ولا يحتاج السودانيون دروسا من أحد، فهم على اختلاف تياراتهم خبروا الثورات والانقلابات، بقدر ما يحتاج العرب إلى تعلم دروس منهم في الصبر والشجاعة والسماحة.

أمام السودانيين نموذج يفاخرون به العالم، وهو سوار الذهب الذي يشكل، بعد رحيله، أسوة حسنة لكل عسكريٍّ يخلده التاريخ. المأمول من البرهان أن ينتسب لسوار الذهب الذي لم يبق في السلطة غير عام، ويتفرّغ بعدها للعمل الخيري والإغاثي، تتبعه الرحمات بعد رحيله. والسودان يستحق أسورة ذهب لا سوارا واحدا. أو ينتسب للسيسي وحفتر وغيرهما من أمراء مهووسي السلطة وأمراء الحرب؟ وفي ذلك مزيد من الخراب الذي يتجاوز حدود السودان.

أضف تعليقك