وائل قنديل
العساكر هم العساكر، والشعوب هي الشعوب، والربيع العربي واحد، سواء كان في الجزائر أو الخرطوم أو القاهرة أو طرابلس.
مع كل التقدير للأشقاء العرب الذين يرفضون عقد المقارنات بين تجليات الربيع في مختلف الساحات العربية، مردّدين شعارات النموذج المتفرد والحالة الخاصة، والسياقات المختلفة، فإن الصورة تتحدث، بوضوح شديد، الآن، فتقول إن الأمة العربية يتجاذبها مشروعان وتياران: الأول نظم استبدادية عسكرية هيمنت على مقدرات البلاد عقودا طويلة، وتحارب من أجل بقائها وامتيازاتها بكل الطرق والأساليب المشروعة وغير المشروعة. والتيار الثاني هو الجماهير التي اكتشفت أنها رهينة لدى تلك النظم العسكرية المستبدة، باسم الخوف على الدولة من التفكّك، والدفاع عن الأمن القومي العربي ضد الأعداء الخارجيين، بينما مفردات الواقع تنطق بأن هؤلاء "الأعداء" هم الأشد حرصًا على بقاء هذه الأنظمة حاكمةً، وبقاء الشعوب رهينة.
تقول لنا الوقائع إن الحلم بالانعتاق لدى الشعب العربي واحد، لا اختلاف بين صيرورة الثورة في أقصى الشرق وأقصى الغرب، بدليل أن كل مواطن عربي يعتبر نفسه جزءًا من الحراك الشعبي نحو الحرية والديمقراطية والعدل في أي نقطةٍ على خريطة العرب، كلٌّ يساهم بما لديه، فمنهم من يعرض حصيلة خيباته وإحباطه وفشله، ومنهم من يقدّم نجاحاته المحدودة، خبرة قد تكون نافعة، من غير حساسية أو اقتحام لخصوصية، إذ ليس ثمّة خصوصية هنا، حيث الكل في الوجع والحلم والهم شرق، أو عرب.. فأحيانًا يكون ضروريًا أن تُؤخذ الحكمة من أفعال الفاشلين، كما تؤخذ من أفواه المجانين.
في كل مكانٍ على أرض العرب، يبدأ الحراك حلوًا ونقيًا ومبهرًا، حتى يصيبه بعض الغرور، أو بعض الميل إلى الفرادة والريادة، ومحاولة قطع الصلة المعرفية بالحالات الفاشلة والمتعثرة، سعيًا إلى صناعة النموذج الخاص، المختلف، وربما طردًا لأشباح التعثر وعدوى الفشل، فتسمع عباراتٍ من نوعية "جيشنا غير جيشكم وحراكنا ليس مثل حراككم"، وتلك هي البيئة المثلى للمستبدّين في سعيهم إلى احتواء الثورات، وتفريغها من جوهرها الإنساني والأخلاقي. ومن هنا، يبدأ الالتفاف على المطالب والأهداف والأحلام، بزعم النجاة من مصائر الدولة المكلومة في ربيعها.
كلنا وقعنا في هذا الفخ اللعين، أو تلك اللحظة التي تُعمينا فيها نشوة بواكير النجاح والانتصار، فنتعامل بشراسة القنفذ مع كل نصيحةٍ من شقيقٍ تنبهنا، وتذكّرنا بما ثرنا وتحرّكنا من أجله، أو تحاول انتشالنا من تأثير مخدّر"الجيش والشعب يد ثورية واحدة". شخصيًا كنت ذلك الكائن القنفذي على شاشة BBC ليلة تنحّي حسني مبارك لمصلحة المجلس العسكري.
تقول لنا الحالتان الجزائرية والسودانية إن البدايات دائمًا رائعة ومثيرة للنشوة، تشبه الوصول إلى الشاطئ، وملامسة الرمال الناعمة والمياه الدافئة، والاستسلام لذلك التيار الذي يبدأ هادئًا رقيقًا، فيسحب الثورات إلى أعماق بعيدة، من دون أن تكون قد امتلكت مهارات السباحة، لتجد نفسها بمواجهة الغرق، فتستسلم طائعة لمن يقدّم نفسه في دور المنقذ وقارب النجاة، فلا تعود إلى الشاطئ مرة أخرى، إلا وقد فقدت قرارها وإرادتها.
في الحالة السودانية، كان كل شيء عفويًا ومدهشًا ونقيًا، حتى ظهر هذا "الاختراع" العجيب: اعتصام جماهيري لثورةٍ تسعى إلى التخلص من الحكم العسكري، وتنشد دولة مدنية ديمقراطية عصرية في ضيافة القيادة العامة للجيش!
كان هذا التناقض المنطقي الجامح مثيرًا للاستغراب والقلق والتشاؤم، ولكن لم يكن هناك بد من الصمت أمام نشوة الأشقاء بالنموذج الخاص، والحالة المتفردة، والجيش الذي ليس مثل الجيوش الأخرى، لتمر ساعات قلائل، ويكتشف الجميع أن الجيش هو عصارة مكر كل الجيوش ودهائها، ليفيق الجميع على كابوس مصادرة الثورة وعسكرتها، في خطوةٍ واحدةٍ، جمعت مأساة ثورة مصر فبراير/ شباط 2011 وكارثتها 30 يونيو/ حزيران 3 يوليو/ تموز 2013 في مأساة واحدة ألقت بالبلاد في أتون ما قبل عصر ثوار الذهب، فيصحو الثوار على الجنرال الذي استضافها في مقرّه ينصب نفسه حاكمًا عامين، ويعلن عن كتابة دستوره الخاص، وتأليف سلطته الجديدة المطلقة.
هكذا، بكل فجاجة، ينقضّ العسكر على ثورة الشعب، ويقتنصون ثمارها لأنفسهم، ويدخلون البلاد في جحيم المرحلة الانتقالية، تلك المرحلة التي تصير انتقاميةً من الثورة، قبل أن تكون اجتثاثية للنظام القديم، على أن الوقت لم يمر، والفرصة لم تضع بعد، فما زال الشعب الثائر في الميادين والشوارع، وكل ما يحتاجه أن يصبح اعتصامه ضد القيادة العامة، لا لخدمة القيادة العامة.
وما يدور في السودان ينبغي أن يكون درسًا وإنذارًا للأشقاء في الجزائر، فكلنا في الهم شرق، كلنا في الألم والحلم عرب.
أضف تعليقك