بقلم: وائل قنديل
الثورات لا تعرف التنازلات التكتيكية، ولا تعترف بالصفقات والمقايضات ولعبة المواءمات الانتهازية، فقد يكون ذلك ممكنًا ومقبولًا في ترتيباتٍ انتخابيةٍ في أوطانٍ محرّرةٍ ومستقرة، لكنه ليس حلًا ثوريًا، بالمعيار الأخلاقي، أو حتى النفعي البراجماتي.
ولكم في 30 يونيو/ حزيران 2013 المثل والعبرة، إذ كانت الساحة التي أحرقت فيها المبادئ والقيم الثورية التي كنا نظنها راسخة، واستبدلت معايير المكسب السريع بها، فارتقى الضابط أكتاف الثائر، وسارت الرموز الثورية مع زعامات البلطجة وسماسرة العفن الحزبي، كتفًا بكتف، ويدًا بيد، مدفوعين جميعًا بغريزة افتراس ونهش الشريك الثوري، السابق، الذي أخطأ في كثير، وحوصر بالأخطاء المصنوعة أكثر، حتى تمت إطاحته بانقلابٍ مرتبطٍ بمؤامرةٍ إقليمية، لم يخف الكيان الصهيوني لعب دور أساس فيها.
النتيجة أن الثورة قد قُتِلت، ورموزها وأيقوناتها أحرقت، ولم يبق هناك سوى الأوغاد والسماسرة، وذئاب الانقلاب المسعورة التي أكلت من لحوم الخصم الوحيد حد التخمة، فاستدارت تلتهم شركاءها، وتنهش أعراضهم في الداخل والخارج.
الإنجاز الأهم لمعادلة "30 يونيو" المؤسسة على انتهازية صفيقة كان مجزرة القرن في ميدان رابعة العدوية، إذ كانت بمثابة الموقف التي استسلم فيه الجميع لفكرة الحياة من دون ضمير، ولو لوقت مستقطع، بعضهم خوفاً، وبعضهم طمعاً، وجلهم من باب الانتهازية، لينتهي الأمر بأن الدماء طالت الكل الذي ضغط على الزناد، وحرّض بالقلم، والذي قصف بالميكروفون، والذي صمت، رعباً، والذي رقص انتشاءً، والذي صفّق إيثاراً للسلامة، فتحول الوطن إلى بحيرة دماء، لم تجف حتى هذه اللحظة.
الآن، مرّت ست سنوات على هذا الخيار، وبدلًا من مواجهة الذات بهذا الفعل الكارثي والتدبر فيه، والاعتذار عن مآلاته الدامية، صار المطلوب، بوقاحة، تجريم ردة فعل الضحايا، والتخلي عما قُتّـلوا وعُذِّبوا من أجله، واعتبار الحديث عن شرعيةٍ مغدورة هي شرعية حق الانتخاب وحق المنتخب، جريمة أو مثار سخرية متهتكة، تصنّف الذين يتذكرّونه كائناتٍ غير عاقلة تسبح في ملكوت المثالية التي باتت بدورها تهمة، أو بجملة واحدة، مجموعة من المزايدين الذين يعرقلون مسيرة الاصطفاف.
في هذا الطقس النضالي، التجاري، غير مسموح بالحديث عن الدكتور محمد مرسي، إلا بوصفه السجين المحروم من الزيارة، وليس الرئيس الشرعي الأسير والمختطف، والعالم الفذ في مجال هندسة المواد، كما تشهد له الجامعات الأميركية، لكن أحدًا لا يمتلك جسارة إنصاف الرجل سياسيًا وعلميًا.
وعلى ذكر الإنصاف، كتبت منذ أشهر، أطلب من الباحث في وكالة ناسا (للفضاء)، عصام حجي، شهادة علمية عن "الزميل" الدكتور محمد مرسي، بعيدًا عن السياسة، وقد وعد حجي، متحمسًا، بكتابة الشهادة وإرسالها للنشر في 25 يناير/ كانون الثاني الماضي، غير أن يناير فات، وبعده فبراير، ولحقهما مارس ثم أبريل، ولم يأت الإنصاف، ربما تاه في دهاليز الاصطفاف، أو ربما أفهموه أن الإنصاف يؤثر سلبًا على مشاريع الاصطفاف.
في المحصلة، صار تذكّر رئيس منتخب، بل هو الرئيس الوحيد المنتخب، موضع تهكم متغطرس من الذين أنفقوا خمس سنوات لهثًا وراء قطة سوداء في الغرف المظلمة، يسمّونها الاصطفاف، لينسلخ الذين أسّسوا، بإرادتهم الحرة، ما سمي "تحالف دعم الشرعية"عن ذواتهم ومعتقداتهم، وينخرطون في بناءٍ آخر لم يرتفع عن الأرض قيد أنملة، يمكنك أن تطلق عليه "تحالف دعم البراغماتية"، بحجة تغير معادلات القوى على الأرض، وبزعم استيعاب المتغيرات الجديدة والمتغيرين الجدد.
ومرّة أخرى، لا مصادرة على حق أحدٍ في الدخول لمنازلة سلطة عبد الفتاح السيسي من الباب الذي يريده، وفي المساحة التي يحدّدها، لكن ذلك لا يبيح لصاحب مسار مستحدث أن يعدم مسارات الآخرين أو يجعل معركته الأساسية هي إلغاء هذه المسارات والحط منها.
صحيح أن هناك من يعبر عن تمسكه بفكرة الشرعية بخطاب أهوج يبتذل الفكرة، ويستوجب التقويم والرفض، إلا أن هذا لا يعني إسقاط المبدأ ذاته، وإذا كان من حقك أن تبدأ ثائرًا مبدئيًا، ثم تنتهي مصفقًا ومطبلًا خلف مجموعة تافهين، أظن أنه من حق الآخرين أن يتشبثوا بما يرونه المسار الصحيح، من دون أن تتعالى عليهم، مدعيًا الحكمة والنبوغ.
أضف تعليقك