بقلم د. عبد الرحمن البر
أَنْتَ عَيْنِي وَلَيْسَ مِنْ حَقِّ عَيْنِي طَبْقُ أَجْفَانِها عَلَى الأَقْذَاءِ
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين.. والعاقبةُ للمتقين.. ولا عُدوانَ إلا على الظالمين.
وصلَّى اللهُ وسلَّمَ وباركَ على النَّبِيِّ الزَّكِيِّ الأمين.. سيدِنا محمدٍ وعلى آله وأصحابِه ومَنْ دَعَا بدعوتِه إلى يوم الدين.
أَمَّا قَبْلُ أيُّها الأحبةُ الكرام، فعليكم مِنَ الله أزكى التَّحيةِ والسلام..
وأَمَّا بَعْدُ، فقد دخلتُ بالأمسِ مكتبتي أبحثُ عن كتاب، أراجعُ فيه بعضَ الفوائد التي تُغَذِّي القلوبَ والألْباب، وبينما أنا مُنْهَمِكٌ في القراءةِ فيه.. طَرَق البابَ صديقي الفقيهُ النَّبِيه.. فرأيتُه في مِشْيَتِهِ يَخْتَال، وما أَنْ سلَّم حتى رفع حاجبَه الشِّمال.. وقال بلهجةِ الزَّهْو والافتخار.. إليكَ يا صديقي آخرَ الأخبار، هلْ تذكُرُ صاحبَنا القديمَ عباس.. الذي وَسِعَه بيتِي حين ضاقتْ به بُيُوتُ الناس، فلمَّا نزلتْ بي الشِّدَّةُ والضِّيق.. لمْ أجدْ منه ما ينتظرُ الصَّدِيقُ من الصديق.
قلتُ: مِنْ مُدَّةٍ لم أَعُدْ أسمعُ من أخبارِه.. ولا وقفْتُ معَ كثرةِ السؤالِ على آثاره..
قال: قد جاءَنِي بالأمسِ بعد أن غابَ النهار.. يُقَدِّم الأعذار، وقَدْ بَدَا على وجهِه الانكسار، يريدُ أنْ يعيدَ أيامَ الصِّلات.. فقلتُ: هيْهاتَ يا صديقي هَيْهات، فلا خيرَ فيمَن يلقاك بالصَّد، ولا يشكرُ الجميلَ ولا يحفظُ العهْد، وللهِ درُّ الحكيم القائل:
رُبَّ صَدِيقٍ كُنْتُ أَدْعُو لَهُ أَنْ يَجْعَلَ الدُّنْيَا كَمَالاً لَدَيْهِ
حَتَّى إِذَا صَارَ إِلَى حَاجَتِي حَقًّا وَصَارَتْ حَاجَتِي فِي يَدَيْهِ
حَالَ عَنِ الْوُدِّ وَعَنْ عَهْدِنَا وَأَظْهَرَ الشُّحَّ عَلَى دِرْهَمَيْهِ
فَمَا مَـضَى بَعْدَ دُعَائِي لَهُ يَوْمَانِ حَتَّى صِرْتُ أَدْعُو عَلَيْهِ
قلت: حَنَانَيْكَ يا صديقي حَنَانَيْك.. أَقْبِلْ عليه ولا عليْك.
صَدِيقُكَ حِينَ تَسْتَغْنِي كَثِيرٌ وَمَا لَكَ عِنْدَ فَقْرِكَ مِنْ صَدِيقِ
فَلَا تَغْضَبْ عَلَى أَحَدٍ إِذَا مَا طَوَى عَنْكَ الزِّيَارَةَ عِنْدَ ضِيقِ
أوَ مَا سمعتَ يابْن الكرامِ الأكابِر ما قال الحكيمُ الشاعر:
لِلْخَيْرِ أَهْلٌ لا تَزَالُ وُجُوهُهُمْ تَدْعُو إِلَيْهِ
طُوبَي لِمَنْ جَرَتِ الأُمُورُ الصَّالِحَاتُ عَلَي يَدَيْهِ
مَا لَمْ يَضِقْ خُلُقُ الْفَتَي فَالأَرْضُ وَاسِعَةٌ عَلَيْهِ
أوَ مَا بَلَغَكَ ما قالت الحكماءُ وما أكرمَه، وما أحسنَه وأجملَه وأعظمَه، إذا بلغكَ عن أخيك شيءٌ تكرهُه فالْتَمِسْ له عُذْرًا تعلمُه، فإنْ لم تجدْ عذرًا فقُلْ لَعَلَّ له عذرًا لا أعلمُه.
وَكُنْتُ إِذَا صَحِبْتُ رِجَالَ قَوْمٍ صَحِبْتُهُمْ وَثَبَّتَنِي الْوَفَاءُ
فَأُحْسِنُ حِينَ يُحْسِنُ مُحْسِنُوهُمْ وَأَجْتَنِبُ الإِسَاءَةَ إِنْ أَسَاؤُوا
وَأُبْـصِرُ مَا يَعِيبُهُمْ بِعَيْنٍ عَلَيْهَا مِنْ عُيُوبِهِمْ غِطَاءُ
قال صديقي أَحْسَنَ اللهُ إليْه، وأجرى عَوَائِدَ الخيرِ على يديْه، كيفَ وقد قال بعضُ السَّلفِ ممَّن أَنْعَم اللهُ عليه، تَوَقَّ مِنَ الرِّجالِ مَنْ إذا أَنْعَمَ عليك مَنَّ عليْك، وإِنْ أنعمتَ عليه كَفَرَكَ ولم يلتفِتْ إليْك، وإنْ حدَّثْتَه كَذَّبكَ وإنْ حدَّثكَ كذبَ عليْك، ينطقُ منه اللسان، بخلافِ ما يُضْمِرُ الجَنَان، وإنِ ائْتَمَنَك اتَّهَمَك وإنِ ائْتَمَنْتَه خان.
أُرِيتُ امْرَءًا كُنْتُ لَمْ أَبْلُهُ أَتَانِي فَقَالَ: اتَّخِذْنِي خَلِيلا
فَخَالَلْتُهُ ثُمَّ صَافَيْتُهُ فَلَمْ أَسْتَفِدْ مِنْ لَدُنْهُ فَتِيلا
فَأَلْفَيْتُهُ غَيْرَ مُسْتَعْتِبٍ وَلا ذَاكِرٍ اللهَ إِلاّ قَلِيلا
أَلَسْتُ حَقِيقًا بِتَوْدِيعِهِ وَأُتْبِعُ ذَلِكَ هَجْرًا جَمِيلا
قلتُ: دَعْ هذا وتَعَالَ يابنَ النُّجباء، أُخْبِرْكَ مِنْ أنباءِ السُّمَحاءِ الكرماء.
كان طَلْحَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رحمه الله، من أَجْوَد أهل قُرَيْشٍ فِي زَمَانِهِ وأسخاه، فلما تنكَّر له زمانُه، أعرضَ عنه إخوانُه، فقالتْ له زوجتُه: مَا رَأَيْت قَوْمًا أَلأَمَ مِنْ إخْوَانِك.. قال: مَهْ مَهْ! لِمَ تقولين ذلك بلسانِك؟.. قَالَتْ: أَرَاهُمْ إذَا أَيْسَرْت لَزِمُوك، وَإِذَا أَعْسَرْت تَرَكُوك!.
قال: هَذَا وَاَللَّهِ مِنْ كَرَمِ أخلاقهم، وجميلِ خِصالهم وطِباعهم، فِي حَالِ الْقُوَّةِ بِنَا عَلَيْهِمْ يَأْتُونَنَا، وَفِي حَالِ الضَّعْفِ بِنَا عَنْهُمْ يَتْرُكُونَنَا.
فَانْظُرْ يا صديقي كَيْفَ تَأَوَّلَ هذا الرجلُ الكريمُ هَذَا التَّأْوِيل، حَتَّى جَعَلَ قَبِيحَ فِعْلِ إخوانِه من الحَسَن الجميل، وعدَّ ظَاهِرَ غَدْرِهِمْ من الوفاءِ النَّبِيل.
وهكذا ينبغي أَنْ يَتَأَوَّلَ الكرامُ الْهَفَوَاتِ مِنْ إخْوَانِهِمْ، وَهَذَا مَحْضُ الْكَرَمِ وَلُبَابُ الْفَضْلِ اللائقِ بهم.
وقَدِمَ عبدُ الرحمن بنُ عَنْبَسَةَ بنِ سعيد، على مَعْنِ بنِ زائدَةَ وكان أميرًا على اليَمَنِ السعيد، وكانتْ بينهما عدواةٌ وأَضْغَان، فقال مَعْنٌ لعبد الرحمن: بأيِّ وجهٍ أَتَيْتَنِي؟، ولأَيِّ خيرٍ أَمَّلْتَنِي؟، قال: أصلحَ اللهُ الأميرَ! وعَفَا الله عمَّا جَرَى وكان، اسمعْ منِّي حتَّى أُنْشِدَكَ بَيْتَيْن قالهما الشاعرُ نُصَيْبٌ في عبدِ العزيزِ بنِ مَرْوان.
لَوْ كَانَ فَوْقَ الأَرْضِ حَيٌّ فِعَالُهُ كَفِعْلِكَ، أَوْ لِلْفِعْلِ مِنْكَ مُقَارِبُ
لَقُلْتُ لَهُ هَذَا، وَلَكِنْ تَعَـذَّرْتْ سِوَاكَ عَلَى المُسْتَعْتِبِينَ المَذَاهِبُ
فاعتذرَ عبدُ الرحمن إليْه، فأقبلَ الأميرُ مَعْنٌ عليه، فقال: أَقِمْ، فإنِّي لا أُؤَاخِذُك يا عبدَ الرحمن، فيما مَضَى ولا أُعَنِّفُكَ فيما يأتي من الزمان.
رَأَيْتُ الْحَقَّ يَعْرِفُهُ الْكَرِيمُ لِصَاحِبِهِ وَيُنْكِرُهُ اللَّئِيمُ
إِذَا كَانَ الْفَتَى حَسَنًا كَرِيمًا فَكُلُّ فِعَالِهِ حَسَنٌ كَرِيمُ
إِذَا كَانَ الْفَتَى سَمِجًا لَئِيمًا فَكُلُّ فِعَالِهِ سَمِجٌ لَئِيمُ
ووصف رجلٌ أخًا له في الله فقال، كنتَ لا تراه الدَّهرَ على أيِّ حال، إلا مُقْبِلاً على الدَّوَامِ إليْك، وإِنْ كنتَ أَحْوَجَ إليهِ مِنْهُ إليْك، وإِنْ أَذْنَبْتَ غَفَرَ ذنبَكَ وكأنَّه المُذْنِبُ الخطَّاء، وإِنْ أَسَأْتَ إليْه أَحْسَنَ وكأنه هو الذي أَسَاء.
يا صديقي إنَّ الكريمَ لا يكون حقودًا ولا حسودًا، ولا شامِتًا ولا باغيًا ولا فاجرًا ولا كاذبًا ولا مَلُولاً ولا عنيدًا، لا يقطعُ عن إخوانِه إِلْفَهُ ولا يُؤْذِيهم، ويُعْطِي مَنْ يرجوه منهم ويُؤَمِّنُ خائفَهم ولا يَجْفُوهم، يَعْفُو عن قُدْرَة، ويَصِل مَنْ قَطَعَه.
قال صديقي النَّبِيه: مَهْلاً أيُّها الشيخُ الفَقِيه:
مَا بَالُ أَقْوَامٍ لَنَا لِئَامٍ لَيْسَ عِنْدَهُمْ عَهْدٌ وَلَيْسَ لَهُمْ دِينٌ إِذَا ائْتُمِنُوا
إِنْ يَسْمَعُوا رِيبَةً طَارُوا بِهَا فَرَحًا مِنَّا وَمَا سَمِعُوا مِنْ صَالِحٍ دَفَنُوا
صُمٌّ إِذَا سَمِعُوا خَيْرًا ذُكِرْتُ بِهِ وَإِنْ ذُكِرْتُ بِسُوءٍ عِنْدَهُمْ أَذِنُوا
قلتُ: اسمَعْ أُّيها اللَّبيب، ما يقولُه المُعَلِّم الأَديب.. إنَّ الكريمَ يَلِينُ إذا استُعْطِف، واللَّئِيمَ يَقْسُو إِذَا أُلْطِف، والكريمُ يُجِلُّ الكِرام، ولا يُهِينُ اللِّئام، ولا يُؤْذِي العاقل، ولا يُمَازحُ الأحمقَ الجاهل، يُؤْثِرُ إخوانَه على نفسِه وحالِه، ويَبْذُل لهم ما يملكُ مِنْ جُهْدِهِ ومالِه، إذا اطَّلعَ على رغبةٍ مِنْ أخٍ لمْ يتأخَّرْ عن إجابَتِه، وإذا عرفَ منه مَوَدَّةً لمْ ينظُرْ في أيامِ عَدَاوتِه، وإذا أعطاه مِنْ نفسِه الإِخَاء، لَمْ يَقْطَعْه بشيءٍ من الأشياء.
إِنَّ الْكَرِيمَ الَّذِي تَبْقَى مَوَدَّتُهُ وَيَحْفَظُ السِّرَّ إِنْ صَافَى وَإِنْ صُرِمَا
لَيْسَ الْكَرِيمُ الَّذِي إِنْ زَلَّ صَاحِبُهُ بَثَّ الَّذِي كَانَ مِنْ أَسْرَارِهِ عَلِمَا
وما أَلْطَفَ قولَ أحد الكُرَماء.. يصفُ ما بينه وبين عَشِيرتِه والأَقْرباء:
فَإِن َّالَّذِي بَيْنِي وَبَيْنَ عَشِيرَتِي وَبَيْنَ بَنِي عَمِّي لَمُخْتَلِفٌ جِدَّا
إِذَا قَدَحُوا لِي نَارَ حَرْبٍ بِزَنْدِهِمْ قَدَحْتُ لَهُمْ فِي كُلِّ مَكْرُمَةٍ زَنْدَا
وَإِنْ أَكَلُوا لَحْمِي وَفَرْتُ لُحُومَهُمْ وَإِنْ هَدَمُوا مَجْدِي بَنَيْتُ لَهُمْ مَجْدَا
وَلا أَحْمِلُ الْحِقْدَ الْقَدِيمَ عَلَيْهِمْ وَلَيْسَ رَئِيسَ الْقَوْمِ مَنْ يَحْمِلُ الْحِقْدَا
وَأُعْطِيهِمْ مَالِي إِذَا كُنْتُ وَاجِدًا وَإِنْ قَلَّ مَالِي لَمْ أُكَلِّفْهُمْ رِفْدَا
قال الشَّعْبِيُّ عامرُ بنُ شَرَاحِيلَ الإمام: إنَّ أسرعَ النَّاسِ مودَّةً وأَبْطَأَهم عَداوةً هم الكِرام، كالكُوبِ مِنَ الفِضَّةِ النُّضَار، يُبْطِئ الانكِسَار، ويُسْرِعُ الانْجِبَار، وإنَّ أبْطَأَ الناسِ مودَّةً وأَسْرَعَهُم عداوةً لَهُم اللِّئامُ الفُجَّار، كالكُوبِ منَ الفَخَّار، يُسْرِعُ الانكِسَار ويُبْطِئ الانْجِبَار.
الكريمُ مَنْ أعطاهُ شَكَرَه، ومَنْ مَنَعَهُ عَذَرَه، مَنْ قطعَه وَصَلَه، ومَنْ وَصَلَهُ فَضَلَه، مَنْ سألَه أعطاه، ومَنْ سَكَتَ ابْتَدَاه، إذا استضْعَفَ أحدًا رَحِمَهُ ولمْ يَسْخَرْ مِنْه، وإذا استضعفه أحدٌ رأى الموتَ أَكْرَمَ لهُ مِنْه، واللئيمُ بِضِدِّ ما وَصَفْنَا من الخِصال، فهو شامِتٌ قاطِعٌ حاقِدٌ على كلِّ حال.
ومسكُ الخِتام قولُ الملكِ الكريم.. ﴿..... ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)﴾ (فصلت).
أسألُ اللهَ العظيمَ أنْ يُؤَلِّفَ بين قلوبِنا، وأنْ لا يَنْزَغَ الشيطانُ أبدًا بَيْننا، وأن يَسُلَّ سَخَائِمَ صُدُورِنا، وأنْ يجمعَ على أَتْقَى قلبِ رجلٍ قلوبَنا، والحمد لله رب العالمين، وصلي الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أضف تعليقك