مقال لـ قطب العربي
انتهت انتخابات نقابة الصحفيين المصريين مساء الجمعة بالنتيجة المتوقعة سلفا: نقيب حكومي، ومجلس مستأنس، لا يلوي على شيء، ولا يستطيع مواجهة الأخطار التي تعيشها المهنة وأبناؤها، بل لا يستطيع حماية جدران النقابة ذاتها.
نتيجة طبيعية لوضع غير طبيعي.. فالانتخابات جرت في أجواء من القمع اللامتناهي لحرية الصحافة، والترهيب المستمر للصحفيين، واعتقالهم، ومطاردتهم، وتغييب قسري لمرشحين معارضين وخاصة من الإسلاميين، وحتى النزر اليسير من مرشحي اليسار (ناصري وثلاثة يساريين) لم يتمكنوا من الفوز.. وهكذا تم كل شيء وفق المخطط تقريبا، بما في ذلك فوز مرشح أو اثنين من خارج التوقعات المرئية.
يدفع الصحفيون المصريون (مع بعض الاستثناءات) ثمن انحيازهم أو قبولهم المبكر للثورة المضادة، والانقلاب على التجربة الديمقراطية الوليدة التي أنتجتها ثورة 25 يناير، وأتاحت سقفا مرتفعا للحريات الصحفية لم تبلغه من قبل، حيث لم يحبس صحفي ولم تغلق صحيفة منذ الثورة وحتى الانقلاب. وكان أشرس الصحفيين هجوما ضد الرئيس المدني ينتهون من وصلة السب والقذف بحق الرئيس وأسرته ثم يعودون إلى بيوتهم آمنين مطمئنين، وفي الحالة الوحيدة التي صدر فيها حكم قضائي بحبس صحفي (رئيس تحرير جريدة الدستور السابق) بتهمة إهانة رئيس الجمهورية تدخل مرسي مباشرة، بما كان يملكه من سلطة إصدار تشريع في غياب البرلمان، ليصدر تعديلا قانونيا يمنع هذا الحبس، حتى لا يبيت ذلك الصحفي ليلة واحدة خارج منزله، رغم أنه كان من أشد الناقدين والكارهين للرئيس.
وصلت أحوال الصحافة المصرية إلى هوة سحيقة، وبلغت الدرك الأسفل، واستقرت في المنطقة السوداء وفقا لمؤشرات حرية الصحافة العالمية المعتمدة، بسبب تصاعد القمع يوما بعد يوم، حبسا لصحفيين ومطاردة لآخرين، وتقييدا للنشر، ومصادرة للرأي، وحجبا للمواقع، وإغلاقا لصحف، وهيمنة على قنوات. وفي ظل هذه الأجواء، جرت انتخابات نقابة الصحفيين. ولم يكن متوقعا، والحال كذلك، أن تنتج مجلسا قويا قادرا على مواجهة القوة الغاشمة للنظام.
وللتذكير، فقد كانت نقابة الصحفيين لها هيبتها طيلة حكم مبارك والمجلس العسكري ومرسي، ولكنها فقدت تلك الهيبة منذ اليوم الأول للانقلاب، واقتحمتها جحافل الشرطة لأول مرة في تاريخها، وذلك في الأول من أيار/ مايو 2016، بالتزامن مع اليوم العالمي لحرية الصحافة بهدف القبض على صحفيين لاذا بها، ولم يستطع نقيب الصحفين ومجلسه في ذلك الوقت حمايتهما، على عكس ما كان يحدث من قبل، إذ لم يتجرأ نظام مبارك على الاقتراب من النقابة، رغم أن بعض الصحفيين المعارضين المطلوبين من الشرطة كانوا يلوذون بها، ويبقون فيها أياما وأسابيع حتى تتوسط النقابة لتسوية الأمر مع الأجهزة الأمنية دون اعتقال الصحفيين.
اليوم لدينا 90 صحفيا وإعلاميا سجينا (كسرت أقلامهم وكاميراتهم)، بينهم عدد من أعضاء نقابة الصحفيين، وأربعة من رؤساء تحرير الصحف والمواقع المصرية (مجدي حسين- عادل صبري- هشام جعفر- محسن راضي)، وبينهم عدد من الإعلاميات أيضا. ومع ذلك، لم تستطع نقابة الصحفيين في ظل ثلاثة نقباء متعاقبين (ضياء رشوان- يحيى قلاش- عبد المحسن سلامة) أن تتدخل دفاعا عنهم، أو أن تتمكن من إطلاق سراح بعضهم، بل لم يحاول أولئك النقباء زيارة زملائهم في محبسهم، بينما كان أسلافهم في عهدي السادات ومبارك يفعلون ذلك، ويعتبرونه واجبا نقابيا وأخلاقيا، حتى وإن اختلفوا سياسيا مع توجهات أولئك السجناء.
لم تقتصر عمليات الترويع والقمع على حبس الصحفيين، ومطاردة آخرين، ومنع النشر لمقالات كتاب معروفين، أو وقف برامج إعلاميين مشهورين، ولم تقتصر على مناهضي الانقلاب الذي أعلنوا رفضهم له منذ اللحظات الأولى، بل تجاوزتها إلى صحفيين وإعلاميين كانوا سباقين في الحشد للانقلاب على التجرية الديمقراطية، وكانوا جزءا من حملات تسويق الانقلاب العسكري. كما لم تقتصر تلك العمليات على صحف وقنوات معارضة، بل تجاوزتها إلى صحف وقنوات كانت أبواقا للثورة المضادة، ومبشرة بالعهد الجديد، فتم إجبار أصحابها على التنازل عنها لشركات تابعة للمخابرات العامة والحربية. وكانت أحدث المحطات هي إعادة هيكلة المؤسسات الصحفية القومية، وفقا لما أعلنه المتحدث باسم مجلس الوزراء في الخامس من آذار/ مارس الجاري، أي قيل 10 أيام من انتخابات نقابة الصحفيين، وكأن الحكومة تخرج لسانها للجمعية العمومية للصحفيين.
إعادة الهيكلة تعني، حسب التصريحات الرسمية وشبه الرسمية، دمج مؤسسات، والتخلص من صحف ومطبوعات، بهدف مواجهة نزيف المديونيات التي لامست 25 مليار جنيه، بخلاف مديونيات التلفزيون الرسمي (ماسبيرو) التي بلغت 32 مليار جنيه أيضا، وبالتأكيد ستنعكس هذه الهيكلة سلبا على أوضاع الصحفيين والعاملين في تلك المؤسسات والصحف، من حيث إمكانيات بقائهم في وظائفهم، أو استمرار الميزات المالية التي يحصلون عليها.
نجح النظام عبر القمع والترهيب في تحويل نقابة الصحفيين إلى إحدى أدواته لتبرير ذلك القمع، وخنق الحريات الصحفية، وهو ما فعله مع مؤسسات أخرى وظيفتها الأصلية هي حماية المهنة وأبنائها أيضا، مثل المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، والهيئة الوطنية للصحافة، والهيئة الوطنية للإعلام، ونقابة الإعلاميين الوليدة. وبذلك نجح السيسي في تحقيق حلمه بالسيطرة على وسائل الإعلام، وتحويلها إلى مجرد أبواق تسبح بحمده، كما كان الحال في الخمسينيات والستينيات.. وبذلك ظلت الصحافة المصرية تنتقل من درك إلى درك أسفل في سلم الحريات الصحفية، حتى استقرت في المنطقة المظلمة. وحتى تخرج من هذا القاع، فإن على الصحفيين المصريين ونقابيتهم التحرك لاستعادة حريتهم، والتحرك مع كل المخلصين لاستعادة حرية الوطن عموما.
أضف تعليقك