وائل قنديل
بمقاييس السياسة، تستحق الحملة التي انطلقت من ميكروفون المذيع، معتز مطر، الإشادة والاحترام، إذ تعد فعلًا سياسيًا محترمًا ومشروعًا في مواجهة حالة الموات التي انتابت الحراك السياسي في مصر.
وبمعايير الحريات وحقوق الإنسان، فإن ما نشر عن استهداف أفراد من عائلة المذيع، بعد الإعلان عن دعوته إلى التظاهر وكسر الطوق المفروض على الجماهير، يعد جريمةً ضد الإنسانية، ويعبّر عن خسّةٍ ووضاعةٍ في الخصومة السياسية.
أما بموازين مهنة الإعلام، فدعونا نتساءل: أين ينتهي الإعلام، وأين تبدأ السياسة، في الحملة الناجحة، بحسب المتواتر عن أثرها وصداها حتى الآن، التي بدأت من استوديو برنامج معتز مطر في تركيا؟
وقبل أن نناقش هذه المسألة، أكرّر تسجيل تضامني الكامل مع المواطن المصري، معتز مطر، ضد هذه الهجمة، أو الهمجية، التي تمارسها السلطات داخل مصر ضد عائلته، كما أسجل إعجابي الشديد بالحملة التي بدأت من عنده، تدعو الجماهير إلى التغلب على الخوف والجمود، وتحثها على ممارسة حقوقها في التعبير عن المطالب والاحتجاج على المظالم.
بل أنني أرى أن المذيع نجح فيما فشلت فيه الجبهات والكيانات المتناثرة في الخارج، إن كانت قد حاولت أصلًا، وابتكر وأبدع في إنتاج فكرة سياسية وثورية بامتياز، تستطيع معها أن تقول إنه قام بما كان يجب أن تقوم به الشخصيات السياسية، وممثلو القوى والأحزاب المعارضة الموجودة في الخارج، بمبرر وحيد، هو إدارة الحراك الثوري لمواجهة بطش وقمع السلطة التي انقلبت على ثورة يناير، والمسار الديمقراطي الذي أفرزته.
والشاهد أن فكرة ثورية بهذا الذكاء والإحكام والتأثير كان حريًا أن تأتي من القوى التي تسمّي نفسها ثورية ومعارضة في الخارج، وأن تكون الدعوة إليها وتنفيذها عبر الآليات السياسية المعروفة لدى كتل المعارضة المعلنة في المهجر، ثم تنتقل إلى المنابر الإعلامية، للحشد حولها ومخاطبة الجماهير من خلالها عن ضرورات ووسائل الحراك السلمي والتعبير عن الاحتجاج على تردّي الأوضاع.
أما ما جرى فهو العكس تمامًا، أو هكذا يبدو، إذ اختبأت كل هذه الشخصيات والجبهات والكيانات خلف مذيع مخلص للغاية لفكرة أهمية استعادة الجماهير، قوة موحدة ومتراصة أمام جدار الخوف والقمع الذي تعليه السلطة يومًا وراء الآخر، وفي لحظة تحوّل ستوديو برنامج المذيع من منبر إعلامي إلى مطبخ سياسي، أو معمل حزبي جبهوي، نيابةً عن هؤلاء الذين يقدمون أنفسهم باعتبارهم قادة الحراك السياسي والثوري.
هنا، وفي اللحظة التي طغى فيها الحماس السياسي، تراجع الأداء الإعلامي الذي من المفترض أن يكون محكومًا بحزمةٍ من القواعد والمعايير والضوابط المهنية، التي تحول دون تحول المذيع أو الصحافي إلى زعيم حزب سياسي، أو تيار ثوري، على نحو مباشر وصريح، بما يضعه خصمًا لسلطةٍ لا تقيم وزنًا لدستور أو قوانين أو مواثيق ضامنة لحرية التعبير وحقوق الإنسان في الاحتجاج والنقد.
هل يعني ما سبق أن المذيع أو الصحافي ليس من حقه الانحياز لاتجاه سياسي أو حتى أيديولوجي، أو الارتباط بحراك ثوري من أجل التغيير؟.
الإجابة بكل تأكيد، وبالقطع هي (لا)، وخصوصًا في الفترات التي يتم فيها سحق الشعوب وقهرها، ووأد الثورات الشعبية. هنا من الطبيعي، بل من الواجب، أن يكون للإعلامي موقف داعم ومؤيد ومعبر عن مطالب الجماهير وآمالها وآلامها، غير أن ذلك لا يعني أن يتطوّع مذيع للقيام بالأدوار التي كان ينبغي أن تقوم بها تلك الجهات، لكنها تقاعست أو جبنت أو عقمت عن إنتاج أفكار للمشاريع السياسية والتحركات الجماهيرية.
هل يعني ذلك أنه لا دور للإعلامي هنا؟
أيضًا، وبالطبع، للإعلامي دور مهم ومؤثر للغاية، في عرض هذه الأفكار والدعوة إليها، وتسليط الضوء عليها بالنقاش والتحليل والشرح، ولكن بوصفها منتجًا سياسيًا يتناوله الإعلام، وليست منتجًا للإعلام نيابة عن سياسةٍ كسول أو عاجزة أو بلا خيال.
أخيرًا: هل في كل ما سبق إدانة أو انتقاص من أهمية المبادرة التي أطلقها المذيع معتز مطر؟
بالقطع، لا يمكن إدانته على ما فعل، بل كل التعاطف والتضامن معه. لكن من الناحية الأخرى لا يمكن القبول بأن يلقي الإعلام بنفسه في أتون السياسة، مضحيًا بمهنيته، نيابة عن بكوات النضال السياسي المتكئين على أرائك العجز وانعدام الخيال، منشغلين فقط بعملية تزوير التاريخ من أجل شخص واحد.
وفي قول آخر ليس جديدًا تمامًا: المهنية بحد ذاتها ثورة.
أضف تعليقك