بقلم: وائل قنديل
صحيحٌ أن مصر عطشى للتغيير، وتتوق لحراكٍ يستعيد قوة الجماهير في مواجهةٍ تجيد صناعة الموت والخوف، وتتفنن في البطش والقمع، لكن الصحيح أيضًا أن هذا الحراك لن يصمد، ولن يقوى على فعل شيء إن لم يكن نبتًا طبيعيًا من جوف الأرض، وعفويًا وصادقًا، بلا أصباغ أو مساحيق، من دون عمليات نفخ وتكبير، تظهر غير الحقيقة.
في الأيام القليلة الماضية، ارتفع سقف الكلام عن محاولات اجتراح معجزة العودة إلى ميادين التظاهر، سواء كانت محاولات فردية، أو جماعية، الأمر الذي أنعش الأحلام، وأحيى ذاكرة الثورة، ودفع الحماس بعضهم إلى تحفيز الجماهير بالصورة والكلمة، حتى أن هناك من عمد إلى استخدام لقطاتٍ ومشاهد قديمة وترويجها على أنها بنت اللحظة. أنا شخصيًا وقعت في هذا الفخ، ونشرت فيديو أرسله إلي صديق، نقلًا عن صفحات "ثورية" يصوّر دخول تظاهرة محدودة إلى ميدان التحرير، واستقبال قوات الأمن لها بالرصاص الحي، وما هي إلا دقيقة أو أكثر قليلًا حتى تبيّنت أن الواقعة تعود إلى العام 2015، فحذفت المنشور، وسجلت اعتذاري عنه.
والشاهد أنه في مثل هذا الأجواء تفتتح "دورة الألعاب الأمنية" فتغرق الساحة بالأخبار والصور الزائفة، فتروج على أنها حقائق، وهنا ترتفع نسبة الأمل، وتتصاعد الأحلام، بشكل مؤقت، ثم سرعان ما تُعلن الجهة التي دسّت هذه الصور المفخخة عدم صحتها، فيحدث شيئان: الأول إصابة الجماهير بالإحباط والإحساس باللا جدوى، والثاني تشكيك الناس في كل ما ينشر، أو بالحد الأدنى عدم الاهتمام به، حقيقيًا كان أم مزيفًا، صادقًا أم كاذبًا، وفقًا للأسلوب القديم جدًا: إغراق السوق بالسلع الرديئة المقلّدة، حتى تخرج السلعة الجيدة من السوق مطرودة.
وعلى ذلك، من المهم للغاية توخّي الحذر وإعمال كل أدوات التدقيق والتمحيص لكل ما يعلن عنه، منشورًا كان في وسائل إعلام معروفة، أو عبر مواقع السوشيال ميديا، الساحة الأرحب للألعاب الأمنية، ووسيلتها المفضلة للتلاعب بالأفئدة والنفوس، وهو أسلوبٌ معتمدٌ ومعترفٌ به لدى الدولة العسكرية البوليسية، منذ أقر مدير المنطقة العسكرية المركزية إبّان ثورة يناير في 2011 بأنه كان يتحكّم في ضبط إيقاع ميدان الثورة بواسطة سلاح الشائعات، عبر مواقع التواصل الاجتماعي، أو بين الناس على الأرض.
وكما كتبت هنا، قبل أكثر من عامين، فإن، من حق كل طرفٍ أن يسعى، بكل ما يستطيع من وسائل وآليات، لإزاحة هذا الكابوس المخيّم على مصر، منذ أجهز عبد الفتاح السيسي على كل فرصةٍ لها في مستقبلٍ كريم وآدمي، تستحقه الجماهير التي سعت إلى التغيير والتحرر من الاستبداد والبلادة والفشل..
يستوي في ذلك الذين يناضلون بالتظاهر في الميادين، وكذلك الذين يقاومون بالكلمة والصورة والفيلم التسجيلي. وعليه، لسنا هنا بصدد توزيع إدانات، بقدر ما نريد تقييما حقيقياً لأفعال، انتهت إلى خدمة سلطة القمع والاستبداد، بدلاً من خلخلتها.
كان ذلك لمناسبة الاندفاع الشديد ركضًا وراء حركةٍ أعلنت عن نفسها من تركيا باسم "ثورة الغلابة"، ضربت موعدًا مع المصريين لإسقاط النظام في 11/11 من العام 2016 ثم مر الموعد، ليفيق الجميع على صوت تفريغ بالونةٍ من الهواء، وأصوات ارتطام أحلام كبيرة بأرضٍ صلبة، وكأن المقصود كان صناعة يقين زائف بالقدرة على سحق منظومة الانقلاب، بالضربة القاضية أو بالنقاط، ثم يصحو الناس على واقعٍ مقبض، تنطق مفرداتُه بمزيد من الإحساس بالثقة والثبات، لدى النظام، مقابل شعور بالإحباط واللاجدوى، لدى المعسكر المناهض للانقلاب، مع مشاهدة لقطات للمشير حسين طنطاوي، الأب الروحي للسيسي وانقلابه، يلعب كرة القدم على أرضية ميدان التحرير، في اليوم الموعود للحراك الكاذب.
ومن المهم التشديد مجدّدًا على أنه لا أحد يملك مفاتيح الميادين، أو يتحكّم في سجلات حضور وانصراف الغاضبين، ونسب حضورهم. ولا يضبط مواعيد الاحتشاد على ساعته، تمامًا كما أنه، من الناحية الأخرى، ليس لأحد أن يسفّه من أي جهد، أو يقلل من أدنى محاولة، أو يصادر على حق أصحابها في الوثوب إلى الأمام، وإلى الأعلى.
غير أن ذلك كله يبقى اجتهاداتٍ غير ملزمة، تخص أصحابها، ولا يمكن فرضها أو وضع ختم القداسة فوقها، فمن شاء فليتحمس، ومن شاء فليُعمل عقله ويتروّى، وليس على هذا أو ذاك حرج.
أضف تعليقك