بقلم.. سكينة إبراهيم
استيقظت “ليلى” مبكرا كعادتها لتكون في استقبال هذا الوفد الجديد من المنظمات الحقوقية الذي يأتي لزيارة “متحف الحرية”؛ كانت تشعر بإرهاق شديد نتيجة كثرة تلك الوفود التي صحبتها في الأيام السابقة، فالعمل في المتحف لا يكاد يتوقف عن استقبال الزائرين ما بين جماهير من شعوب العالم كله، وما بين هيئات واتحادات وائتلافات ومؤسسات، إلا أن الزيارات الحقوقية من بين مهماتها هي واختصاصاتها التي لابد لها أن تؤديها بنفسها؛ خاصة أنها علي يقين أن الحديث عنها هي بالذات سيكون محور سؤال رئيس من قبل كافة الزائرين لما لأبيها الشهيد -بإذن الله- من علاقة مباشرة بالأحداث؛ وذلك بعد أن يتفحصوا “المتحف” ويقفوا علي أهم ما فيه من قصص ومواقف تكاد أن تجعله جزءا من الأساطير لولا أن وجودها وحديثها مما سيوضح حقيقة ما كان ويضعه ضمن باب عِبر التاريخ لا في فصول الخيالات والأحلام..
*****
شرعت “ليلي” في شرح معالم “متحف الحرية” وما به من غرف وأدوات.. فبدأت بذكر تاريخ اسمه وكيف تحول من “سجن الاستئناف” إلي متحف للحرية يقصده طالبوها في العالم كله ليستأنسوا بقصته ويتخذوا منها زادا في طريق كفاحهم ونضالهم.
وكالعادة استمع الحضور في صمت ودون أن ينبس أحدهم ببنت شفة، وكأنهم كانوا في انتظار محدثتهم كي تنتهي من سرد ما لديها من معلومات وبيانات، حتي يطلبوا منها ما يطلبه غيرهم ممن يأتي إلي زيارة هذا المتحف.
وقد كانت “ليلي” بالطبع تلمح هذا الفضول في صمتهم وفي أعينهم الزائغة تتعجل تفقد المكان ليطالعوا بأنفسم موقع “المعجزة”..وفي أدب جم رفع أحد أعضاء الوفد يده مستئذنا في بدء الجولة الميدانية ومعرفة القصة الحقيقية وراء ما سمعوا عنه من “البئر الملعون”..و”الغرف المسحورة”..وبالفعل أخذتهم “ليلي” لتحكي لهم حقيقة تلك القصص التي يتناقلها الناس في كل مكان…
*****
كانت إحدى غرف “المتحف” مغلقة وعليها لافتة تقول “غرفة الإعدام”، فتح الحارس الغرفة، وبدأ الجميع في الدخول إليها بشغف وفضول، وهناك وقفوا خلف سور من القواطع السميكة التي تحدد لهم تلك المساحة التي عليهم ألا يتجاوزوها وأن يقفوا خلفها حتى يتمكنوا من النظر بحذر في البئر المفتوح بابه.
ساد الجميع الوجوم والترقب، فقد تذكروا ما سمعوه من “لعنة” هذا البئر، وكيف أنه يتسبب في أن يفقد كل من ينظر فيه عقله وصوابه.
فطنت “ليلى” لما يجيش في صدور الزائرين من قلق، ولذا فقد بادرتهم بالحديث مطمئنة إياهم فقالت: “إن ما سمعتموه عن هذا البئر صحيح، وغير صحيح في آن واحد، فهذا المكان قد تدلت فيه على المشانق أجساد ورقاب لعشرات الشباب من خيرة تلك البلاد في وقت من الأوقات، ومن ثم فقد بدا هذا البئر وكأنه حامل لمشاعل من نور ونار.. نور من أثر ضياء تلك القلوب المشعة الخيرة..، وكأنها حينما تدلت علي المشانق قد ضنت بأن تنخق معها ما تتضمنه وتحتويه من إشراقات خير وكوامن عدل ورحمة، فنثرتها من فوق جثامينها كبذور تخرج من أكمام زهرة تتفتح، فسري منهم هذا النور نبراسا ومشعلا تربت عليه الأجيال التالية…تلك الأجيال التي نفضت عن أعينها غفلة الأوهام وترهات الحياة الضيقة اللامنتجة، بل علمت أن الأمر جد، وأن الفوز سبيله اليقظة والانتباه والمثابرة حتي الوصول… جيل علمته “الشهادة” أن يسجل حضوره الدائم بعظيم ما يسعي إليه ويعمل من أجله”.. تابعت “ليلي”:”إن هذه الأجيال هي تلك البذرة التي انتثرت من فوق الأجساد التي تدلت في هذا البئر، وإن ماترونه حولكم من حضارة وعمران إنما هو هذا النور الذي انبثقت شراراته الأولي من هنا، وانطلق من يومها يتوهج أكثر وأكثر مع كل إشراقة لفجر جديد..”..
*****
فاضت عيون الحاضرين بالدموع الحارة، ثم سألها أحدهم قائلا:”ولكن لماذا تتناقل الشعوب أخبارا عن ضباط وعساكر كانوا قد نظروا في تلك البئر فأصابهم مس من الجنون وما لبثوا أن قضوا نحبهم في المصحات النفسية أو تائهين مشردين في الأزقة والطرقات”..أجابت علي الفور:”تلك هي “النار” التي حدثتكم عنها، والحقيقة أن تلك الأخبار فيها الكثير من المبالغة؛ حيث لم يتم توثيق وقائعها بدقة، ولكن ما حدث أن خصوم الحق ومريقي دماء الأبرياء لم تكن لتهدأ لهم حال أو معاش، فظلوا لذلك يتقلبون في ظلمات الحياة وعنتها وقساوتها غير مدركين لطبيعة علتهم ومبعثها، ومن ثم عجزت معهم العقاقير والعلاجات وزيارات العيادات والأطباء، وباتت حياتهم نكدا وألما؛ حتي قضي جلهم نحبه وهو علي تلك الحال، وأورث ذويه من بعده الهموم والآلام”..
*****
وهنا بدأ الحضور في النظر إلي البئر باطمئنان وراحة، وكل منهم يرسم في مخيلته لوحة لتلك الأقمار التي عندما تدلت تفجّر من ضيها شموس في مشرق جديد، وهاتيك البذور الناضجة التي أينعت وفاح شذاها؛ حتي أن بعضهم قد بدأ يشعر بروائح عطر ومسك وريحان تنبعث من حوله..
*****
انتقلت الزيارة عقب ذلك نحو تلك الغرف التي يشيعون عنها اسم “الغرف المسحورة”، وقد كانت السكينة والتُؤَدة قد عمت قلوب الجميع، وفارقهم ما كانوا عليه من قلق وذعر..، وأثناء انتقالهم إلي تلك الغرف سرت بينهم بعض الهمهات، فقد كان ظنهم أنهم سيجدون جدرانا يتعامد عليها قرص الشمس نهارا وأشعة القمر ليلا كي تبدو علي ما سمعوه عنها من ضياء ونور متصل.
أخذت خطواتهم في الثقل وهم يتنقلون في الممر الطويل المؤدي إلي الغرف، كانت الأبواب موصدة، ولا يبدو أن المكان قد خضع لأي من عمليات التجميل أو الترميم..قالت “ليلي”:”إن إدارة المتحف قد رأت ترك تلك المساحة علي الحال نفسه الذي تسلمناه عليها؛ حتي يعرف الزائر إلي ماذا كانت تهدف، ثم ماذا حققت تبعا لذلك”..كانت الغرف ذات أسقف مرتفعة وجدران سوداء قاحلة ولا تحوي الواحدة منها سوي علي فتحة علي البعد لنافذة من العسير الوصول إليها أو الإطلال من خلالها..وهنا لاحظت “ليلي” ما أصاب الحضور من ذهول تبعه ما يشبه الإحباط من ضياع طموحهم في رؤية ما كانوا ينتظرونه من ضياء متصل مُعجِز..
فأردفت تشرح ما ظهر أنه مفارقة وسوء فهم:”إن القائم علي تصميم تلك الغرف قد ظنّ أنه بسوادها وابتعاد سقفها ربما يحمل ساكنها علي أن يصل إلي حالة اليأس والقنوط ويظن أن مراميه قد باتت بعيدة المنال كما يشي بذلك كل ما حوله، فعندها لن يجد له بدا سوي تقبيل يد الطاغية ومبايعته علي العبث بالأمل والمستقبل يطيح فيهما لاهيا كما شاء. في حين أن ما حدث هو استمرار لإيمان قويم بأن حياة أخري تمتد من بعد الحياة، فتدب روحا موقظة في أجساد أمة ناعسة فتهبها فعالية وانتعاشا وحضورا كانت جديرة بهما من قبل النعاس والخمول، لكنها احتاجت صيحة نفير من مرفأ الخالدين حتي تنتبه لعظيم المرامي التي حجبتها عنها غفلة السنين..”..
وأضافت: “وهذا البعث الجديد..هو الضياء المتصل الذي يتحدث عنه الناس، لكن بعض العقول تضع كافة التصورات في سياق ما يمكن رؤيته وتجربته وتذوقه، ولذا ظنوه كضوء المصابيح أو القناديل، أو ربما يتأسس علي مهارة في التصميم والهندسة كقديم المتاحف والآثار، في حين أنه نهار سرمدي يصل حاضرا زاهرا، بماضيه التليد عبر ليل كادت الأنفاس منه تحتبس..”..
حدقت عيون الحاضرين لدقائق متصلة دون أن تغمض لهم أجفان، حتي انتبهوا فوضع كل منهم يده أعلي ناظريه وكأنهم يستقبلون سراجا مشعا أضاء أمامهم علي حين غرة..
*****
عقب انتهاء الجولة دعت “ليلي” الحضور علي وجبة غذاء في بيتها، وقد قبل الجميع الدعوة ولم يتخلف منهم أحد، فقد كانوا جميعا يودون التعرف علي “ليلي” عن قرب وسط عائلتها وزوجها وأبنائها، فقد تيقنوا أن “المعجزة” التي جاءوا ليشاهدوها إنما هي “ليلي” وهذا الجيل الذي تمثله؛ هؤلاء الشباب الذين تلقفوا الراية التي ارتوت بالدماء، فكانت لهم بمثابة الحادي نحو العمل..
إن “ليلي” وأبناء جيلها قد فارقوا “قيس” الأوهام محدود الغاية ضعيف الطموح، كرهوا فيه غفلة القلب ورق النفس وابتئاسها، رأوا فيه العدو الذي زرعه بداخلهم الخصوم حتي يهيموا مثله أشقياء باحثين عن الفاني والرخيص، وينسوا أنهم قد خلقوا لترتفع هاماتهم نحو المعالي والأهداف السامقة..
حلّ الوفد ضيوفا في بيت عائلة “ليلى”..وقد شرعوا في تدوين كل ما تفعله مع أبنائها في تربيتهم وما تحكيه لهم من قصص وبطولات أجدادهم الخالدة..
أضف تعليقك