بقلم قطب العربي
تسارع الإدارة الأمريكية خطواتها لتسويق ما يعرف بصفقة القرن، المتعلقة بتسوية القضية الفلسطينية. وقد أوفدت الإدارة طاقما دبلوماسيا رفيع المستوى إلى المنطقة؛ لوضع الترتيبات النهائية للتنفيذ (المخطط له عقب انتهاء الانتخابات الإسرائيلية في نيسان/ أبريل المقبل)، بقيادة عراب الصفقة جاريد كوشنر صهر ترامب وكبير مستشاريه، ورفيقيه مساعد الرئيس الأمريكي والمبعوث الخاص للمفاوضات الدولية جيسون غرينبلات، والمبعوث الأمريكي الخاص لشؤون إيران برايان هوك. وقد التقى الوفد الأمريكي مع وزير الخارجية القطري محمد بن عبد الرحمن آل ثاني في الدوحة، وسبق ذلك لقاء مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وأركان حكمه في أنقرة، وكذا لقاءات مع قادة السعودية والإمارات، في الوقت الذي لم تنقطع فيه الاتصالات الأمريكية مع حكومتي السيسي وملك الأردن.
تقوم الصفقة بشكل رئيس، في ما يخص القضية الفلسطينية، على إقرار الواقع على الأرض ربما مع بعض التغييرات الطفيفة، لكنها تتجاوز ذلك إلى تغيير العقلية العربية المحيطة، ونقلها بشكل كامل من خانة العداء التاريخي مع الكيان الصهيوني إلى حالة التطبيع الكامل، وتوجيه بوصلة العداء في المنطقة إلى عدو جديد هو إيران. كما أن الشق المالي للصفقة يتضمن ما يقارب المئة مليار دولار؛ حددت بعض التسريبات حتى الآن منها رقم 25 مليار كرشوة للجانب الفلسطيني تحت بند تنمية قطاع غزة والضفة الغربية، و40 مليار لدول الجوار (مصر والأردن ولبنان)، وسنعرف لاحقا تفاصيل بقية المبلغ.
آخر شيء يفكر فيه عرابو الصفقة وداعموها (المأزومون) هو الشعب الفلسطيني والقضية الفلسطينية.. المهم بالنسبة لهم جميعا هو تحقيق انتصارات خاصة بهم، يواجهون بها خصومهم ويخرجون بها من أزماتهم الخاصة. فالرئيس الأمريكي ترامب الذي يواجه تحديات كبيرة في الداخل الأمريكي وتصاعدا لرفض سياساته، واتهامات جنائية ربما تطيح به أو على الأقل تؤثر في فرص ترشحه لولاية ثانية، يسعى لتحقيق انتصار يبيض به وجهه، وينال به مزيدا من رضى اللوبي اليهودي والجماعات اليمينية الأمريكية.. ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يواجه أيضا اتهامات جنائية وجهها له النائب العام؛ قد تطيح به في الانتخابات النيابية التي ستجري في نيسان/ أبريل، وهو يسعى لتحقيق انتصار سياسي قد يغطي على تلك الاتهامات الجنائية.. وعبد الفتاح السيسي الذي كان أول من نطق مصطلح صفقة القرن يمر بأزمة شرعية رغم مرور خمس سنوات على دخوله إلى قصر الاتحادية، وهو يريد استمرار الدعم الصهيوني له، وهو الدعم الرئيسي الذي يبقيه في السلطة، وربما يكون الجزء من صفقة القرن الذي بدأ السيسي تنفيذه هو إحياء النفوذ اليهودي في مصر، ومنح تعويضات لليهود المصريين الذين غادروا مصر من قبل، والبدء فعلا في ترميم الآثار والمقابر اليهودية في مصر، بل السماح لمن أراد من اليهود بالعودة إلى مصر وحمل جنسيتها. ولا يقتصر الأمر على هذا الحد، بل إن الصفقة (حسبما تسرب من قبل) تتضمن إقامة منطقة استثمارية حرة في سيناء؛ تفتح فرصا لتشغيل العمالة الفلسطينية، ناهيك عن احتمالات التنازل عن جزء من أراضي سيناء لتوسيع قطاع غزة.
ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، وهو أحد كبار داعمي الصفقة، يعيش وضعا صعبا بعد تورطه في جريمة مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي، وتبنيه لمشروع تغيير ثقافي واجتماعي (يستبعد أي إصلاح سياسي). وضمن هذا المشروع التغييري، وربما هو جزء من صفقة القرن، أيضا مدينة نيوم الترفيهية الاستثمارية التي ستقام على أرض مصرية أردنية سعودية، والتي يخطط لها أيضا أن تسهم في امتصاص جزء من العمالة الفلسطينية، وفي الحالتين (المنطقتين الاستثماريتين في سيناء وفي نيوم) سيتم تغيير قناعات الشعب الفلسطيني لتطبيع حياتهم مع الوضع الجديد ونسيان حقوقهم التاريخية.
الصفقة التي يراد تمريرها بسحر الأموال الضخمة التي ستدفعها بالأمر المباشر دولا خليجية ليست صفقة عادلة ولذلك هي محكومة بالفشل منذ اللحظة الأولى للإعلان عنها، وسيظل الفشل يلاحقها حتى يتم دفنها مع ما سبقها من مبادرات مماثلة لتصفية القضية الفلسطينية، لأنها ببساطة لا تلبي الحقوق العادلة للشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشريف، وهو ما تنبه إليه دبلوماسي أمريكي كبير، هو دينيس روس مبعوث السلام إلى الشرق الأوسط سابقا، والذي أكد في حديث للإذاعة العبرية أن "الجهود التي تبذلها إدارة الرئيس ترامب لحشد تأييد الدول العربية المعتدلة مآلها الفشل إذا لم تلبّ التطلعات الوطنية الفلسطينية".
القضية الفلسطينية التي ظلت تقاوم الاحتلال على مدى سبعين عاما، أجيالا وراء أجيال، لن تقبل بسهولة مثل هذه الصفقة مهما بلغت إغراءاتها الاقتصادية والمعيشية لهم. وها نحن نلمس توحدا نادرا بين جميع القوى الفلسطينية حول رفض هذه الصفقة، بما في ذلك السلطة الوطنية برئاسة محمود عباس، كما أن الشعب الفلسطيني أصبح حاضرا مجددا عبر مسيرات العودة الأسبوعية التي تؤكد رفضها للصفقة. وقد فشلت كل الجهود العربية والدولية حتى الآن في تليين موقف القيادة الفلسطينية (سواء في غزة أو الضفة) لأن الجميع يدركون أن القبول بهذه التسوية هو انتحار لهم، قبل أن يكون نحرا للقضية ذاتها على أيديهم.
وهذا إلى جانب الموقف الفلسطيني الصلب والموحد ضد الصفقة، فإن ثمة عوامل أخرى تعرقل نجاحها، وعلى رأس ذلك الأزمات التي يعانيها عرابوها في واشنطن، وكذا الانتخابات الإسرائيلية التي تأتي عقب الاتهامات التي وجهها النائب العام الإسرائيلي لبنيامين نتنياهو، والتي تهدد بخسارته للانتخابات، وهو ما يعني أن أي حكومة غيره ستبدأ التفاوض من أول الطريق كعادة كل الصهاينة في استخدام عنصر الوقت.
أضف تعليقك