وائل قنديل
تقترب انتفاضة الشعب السوداني من إكمال شهرها الثاني بلا توقف، حيث تتسع مساحة الغضب، كلما تمدّدت رقعة الصمت والإهمال والتواطؤ على دماء عشرات الشهداء وحريات مئات المعتقلين، منذ اندلاع بركان الغضب منتصف ديسمبر/ كانون أول الماضي.
بعد انقضاء شهرها الأول، قلت إنه حيث يحاول البشير القضاء على الثورة، بالضربة القاضية، فإن الثورة ماضيةٌ إلى الانتصار والفوز، بالنقاط، وليس أدلّ على ذلك من أن كل موعد مضروب للحضور الشعبي يكون أكبر مما قبله، وكل موكب غضبٍ يأتي أطول وأعرض وأعمق من سابقه.
وما زلت عند رأيي في أن انتفاضة السودانيين هي الأقوى والأعمق، كونها تصمد وتتحرّك في ظل مناخ عالمي يحتقر الغضب الشعبي، ويوفّر إسنادًا للمستبدين يتخذ أشكالًا عديدة من الدعم، أقله الصمت على جرائم قمع المتظاهرين، والاكتفاء ببياناتٍ متقطعة، لا توفر المظلة الحقوقية والأخلاقية للثوار، وإن كانت تحمل بعض عبارات الشجب والاستنكار الخجول للإفراط في استعمال القوة الأمنية.
هذا الموقف الدولي الذي يدين، ذرًا للرماد في العيون، ومن باب تسجيل المواقف المائعة، لو قارنته بما توفر للموجة الأولى من ثورات الربيع العربي 2011 ستكتشف أن وضع ثورة الشعب السوداني يشبه إلى حد كبير وضع الثورة السورية، بعد العام 2014، بالنظر إلى ردود الأفعال الدولية والإقليمية: تصريحات عابرة لا تساوي الحبر الذي كُتبت به، بينما تسهم المواقف العملية في تعويم النظام، وإنعاش حظوظه في البقاء والإفلات بجرائمه.
على أن هذا كله لم يفت في عضد الثورة، ولم يدفعها إلى رصيف اليأس والإحباط، أو إلى تحقيق رغبة النظام في الاتجاه إلى مبادلة العنف بالعنف، فاتسعت مساحة المشاركة الشعبية على نحوٍ يفوق البدايات، وكما تجلى في مواكب يوم الخميس الماضي، في الخرطوم ومدن أخرى، كانت أعداد الحشود أكبر من ذي قبل، متخذة طابعًا حضاريًا يتميز عن التظاهرات التي كانت تخرج قبل عقود، وتحديدًا في فترة حكم جعفر النميري، وهو تصدّر المرأة السودانية متقدمة صفوف الثوار والمتظاهرين، الأمر الذي يوجه رسالة إلى العالم كله بأن هذه الثورة حريصة على سلميتها وواعية تمامًا لمحاولات النظام استدراجها إلى حالة أعمال الشغب أو الغضب العنيف.
وفي طريقها نحو الحرية والتغيير، يمكن القول إن الثورة السودانية بقيت متمسكةً بالسقف الأعلى لمطالبها، محقّقة مكاسب لافتة حتى الآن، فيما يبدو النظام، بمرور الأيام، متراجعًا ومقدمًا تنازلاتٍ في محاولة لامتصاص الغضب، ومن ذلك تخلي سلطة البشير عن قانون قديم كانت تعطيه قشرةً من القداسة الدينية، وهو قانون النظام العام الذي كان يسمح لجهاز الشرطة بالتعدّي على الحريات العامة والشخصية، وإذا اعترض أحدٌ على الانتهاكات التي تجري باستخدامه، كان عمر البشير، شخصيًا، يردّد أن على من يعترض على هذا القانون أن يراجع إسلامه.. والآن ها هو البشير يتراجع ويتنازل عن قناعاته السابقة، معلنا أن هذا القانون يتناقض مع الشريعة الإسلامية، بما يمثله من تغوّل على حياة الناس العامة والخاصة.
الشاهد في ذلك كله أن ثورةً هناك لا تعرف اليأس، وتزداد كل يوم توهجًا وإصرارًا، في تحدٍ نبيل للتواطؤ الإعلامي ضدها، وأيضًا انشغال قطاعات من جمهور الثورات العربية عنها، سواء لأسبابٍ تتعلق بوطأة الأوضاع الداخلية البائسة، أو تعبيرًا عن سيكولوجية النفس القصير، وسط مناخٍ عام، مصنوع بعناية، لتكفير الناس بالثورات والتظاهرات، ودفعهم دفعًا إلى الإحباط والإحساس باللاجدوى.
تستحق ثورة السودان حاضنة شعبية عربية أوسع وأعمق مما هو حاصل، والأهم من ذلك ديمومة الدعم والإسناد الشعبي، ولو حتى بعبارات التضامن على مواقع التواصل الاجتماعي.
أضف تعليقك