بقلم سليم عزوز
في مثل هذا اليوم (11 شباط/ فبراير 2011) كنت هناك، مع الذين حاصروا القصر الجمهوري في مصر الجديدة!
لقد كنت من الذين شاركوا في الزحف الى القصر الرئاسي، ودون دعوة من أحد، فقد ذهبنا إلى هناك بعد صلاة الجمعة مدفوعين باليأس الشديد، بعد ليلة حزينة ختمها مبارك بخطاب ممل، أكد خلاله أنه باق في الحكم، ولن يخضع لضغوط خارجية والتغرير ببعض الشباب، بعد يوم قضيناه في التحرير، ككل أيام الثورة، وقد غادرت إلى منزلي، فقطعت مسافات كبيرة مشياً على الأقدام، وكان هذا سبباً في مضاعفة التعب، فنمت سريعاً.. "إن يغشيكم النعاس أمنة منه"، فلولا التعب لما حل النوم ولقضيت ليلة قلق وتوتر، فها هو مبارك متمسك بالسلطة، ومُصرّ على العناد، وهو الذي سبق له أن قال إنه حاصل على درجة الدكتوراة فيه!
في أيام الثورة، كنا نتحدث في ضرورة الزحف إلى الرئاسة، وكتبت أنا في هذا، وبعض المصريين في الخارج كانوا يتصلون بي ويدعون إلى تطوير الاعتصام، بالذهاب للقصر، لا سيما مع كلام منسوب لمسؤولين، من باب التحدي: "فليبق المعتصمون في التحرير، إلى حين انتهاء دورة مبارك، فلن تتوقف الحياة؛ لأن ميدان التحرير مغلق ويحتله المتظاهرون، فمصر ليست ميدان التحرير".. كانوا يسقطون من حساباتهم المظاهرات العارمة في كثير من المحافظات ومنها السويس والإسكندرية!
والبعض كان يتجاوز في رفضه لفكرة الزحف هذه، إلى حد اتهام أجهزة أمنية بأنها وراء دس هذه الفكرة، لكن في لحظة اليأس الكبرى، انتقل كثيرون إلى القصر الجمهوري.. كثيرون ذهبوا سيراً على الأقدام في حشود ومجموعات متفرقة وملتحمة، لكن الجميع لم يغادر إلى هناك، وبقي كثيرون في ميدان التحرير، باعتباره قطعة محررة من أرض الوطن لا يجوز التفريط فيها!
أغراب أمام القصر
كان كثيرون يسألون الحرس ببراءة: هل مبارك بالداخل؟ فيردون عليهم بأنه ليس هنا، وكانوا يكتفون بالإجابة ويستمرون في الإحاطة بالقصر. وعلى كثرتنا بدا أننا أغراب على منطقة لم تؤب معنا، يبدو أن سكانها وبحكم قربهم من مقر الحكم، يدركون خطورة التفاعل السياسي.
أرادت متظاهرة أن تدخل الحمام، فرفض السكان طلبها في أكثر من بناية، رغم أنها كانت تطلب بتوسل، وفي الأخير طلبت الأمر بتسول من واحدة خرجت من إحدى البنايات فكانت رحيمة بها، أشارت لها على العمارة التي تسكن فيها، وذكرت لها اسم الحارس، وقالت قولي له أنني من طرف مدام فلانة، وكان سيدة كريمة حقاً!
حطت طائرة في فناء القصر، وسخرنا، فربما أرسلتها سوزان مبارك لتحمل متعلقاتها الشخصية. وفي جو الأزمة يهرب المصريون للسخرية للتخفيف من وطأتها، وكان هناك كلام عن أن مبارك غادر بالفعل صباحاً إلى شرم الشيخ، ولم نكن نصدق تماماً.
أنا والمستقلة وأشرف السعد
في هذا اليوم تلقيت اتصالاً هاتفياً من قناة "المستقلة" في لندن، في برنامج يقدمه صاحبها "الهاشمي الحامدي"، وكان الاتصال قد انقطع بيننا منذ كانون الثاني/ يناير 2009، بعد أن كانوا يتصلون بي في حوارات مطولة، ولمدد مفتوحة. وانقطاع التواصل كان بعد مشاركتي من لندن لعشرة أيام في برنامج بالقناة عن البديل الجاهز للحكم في الأقطار العربية، كان يستمر في كل ليلة لمدة تتجاوز الثلاث ساعات، حتى هتف "أحمد حسن" المتحدث عن الناصريين: "اعتقونا لوجه الله"!
كان "أشرف السعد" قد طلب مني التوسط، لدى "الحامدي" للمشاركة في بعض البرامج، لكن الأخير اعتذر لي بأنه لا يريد أن يدخل في مشاكل مع المصريين، وعبثاً حاولت إفهامه بأن قضية توظيف الأموال صارت في ذمة التاريخ، فلن يغضب النظام لأن هناك من تحدث فيها، وهناك نقاطا تحتاج إلى توضيح في هذا الملف، كانت سبباً في أن أجري حوارا مع السعد حولها، لكن صاحب "المستقلة" اعتذر، ونقلت اعتذاره لـ"الحاج أشرف السعد". وبعد أيام من وصولي للقاهرة كان صاحبنا هو نجم "المستقلة" الأوحد، لدرجة أن كثيرين كانوا يرددون أنه شريك في ملكيتها، كنت أعلم أن هذا ليس صحيحاً!
كان المفروض أن أعتذر عن المداخلة لهذه القطيعة غير المبررة، لكني كنت في هذه المرحلة أعتبر أن الحديث للفضائيات هو واجب الوقت وحيلة العاجز الذي لا يستطيع ضرباً في الأرض. وفي ليلة موقعة الجمل، وإذ أحاط الشبيحة بالميدان، فقد غادرته أكثر من مرة إلى مكاتب الفضائيات القريبة منه، فلم أعتذر عن دعوة ليلتها، رغم أن الأمر يمثل مخاطرة كبرى!
حول القصر
على الرصيف أمام القصر الجمهوري جلست، كان يجلس على يساري "محمود إبراهيم" الصحفي بـ"الأهرام"، وعلى يميني الزميلة "حنان فكري"، الصحفية بجريدة "وطني". "وحنان" كانت في التحرير، وشاهدتها يوم 28 كانون الثاني/ يناير تجري من تأثير القنابل التي كانت تلقى علينا، مع أنها أعدت العدة، فتضع كمامة، وتمسك بزجاجة خل!
كان البابا قد طلب من رعاياه ألا يشاركوا في المظاهرات، وقالها بصريح العبارة: "نحن مع مبارك"، لكن "حنان فكري" خرجت في الثورة، وسمعتها مرة تقول: حتى إذا نجحت لا تقولوا إن المسيحيين لم يشاركوا فيها.
أشارت "حنان فكري" إلى بنايات مرتفعة أمامنا، وقالت بأسى: إنهم حتى لم يفتحوا النوافذ ولو من باب الفضول لمعرفة ما يجري، إن لم يكن من أجل الانحياز للثورة. وقلت: ربما كانت مكاتب إدارية وليست شققاً سكنية، واليوم الجمعة، أي عُطلة فلا يوجد أحد هناك. وعادت لتقول بأسى: بل شققا سكنية. ولم يكن عندي كلام أحاجج به، فكان الصمت هو الخيار الأفضل!
كان "محمود إبراهيم" (ليس ضيف الجزيرة الممل)، يحمل جهازاً صغيراً، ربما راديو، وربما جهاز موبايل به راديو، يضعه على أذنه، يسحب الإريال الخاص به للتغلب على ضعف الصوت وسط هذا الضجيج!
وإذ فجأة صاح "محمود إبراهيم"، على طريقة مشجعي الكرة، وبكلمة واحدة مطها: "ايييه"، وأجاب قبل أن أسأله: مبارك تنحي؟!
كان بيان عمر سلمان، وبمجرد أن وصل عند النقطة الخاصة بالتنحي، فعل "محمود إبراهيم" فعلته، فهتفت المتظاهرون، واهتزت الأرض، وبعد أن شاركتهم الهتاف، وبعد بضع ثوان، كانت قد ذهبت السكرة وحلت الفكرة، فقلت لمحمود إبراهيم، ربما تكون قد ورطتنا بهذا التعجل، اتصل بزوجتك سريعا في المنزل، فربما كان هناك تدارك لفكرة التنحي، فهذا رجل عنيد (أقصد مبارك) فربما قال: لقد قررت التخلي عن رئاسة الجمهورية، لكن ضغوط أنصاره جعلته يعدل عن هذا، عندئذ فكل هؤلاء الذين يهتفون الآن سينتقمون منا نحن، وقد ورطناهم في هذا المشهد!
قام "محمود إبراهيم" بمحاولة سريعة للاتصال بزوجته، لكن شبكة التلفونات كانت قد انهارت، من كثرة الاتصالات والضغط عليها، وإذ فجأة كان "محمود" قد اختفى وسط الزحام، وكأنه "فص ملح وذاب"، ولم أسأله إلى الآن أين ذهب!
وفُتحت النوافذ
في اللحظة التي هتفنا فيها، كانت النوافذ قد فتحت ولوح لنا السكان بعلامات النصر، كانوا يهتفون معنا، وكانوا سعداء بتنحي مبارك!
كان عليّ أن أذهب لميدان التحرير، لكن لا توجد سيارات أجرة تقف لنا، أشرت لسيارة ملاكي، لزوج وزوجته: إلى التحرير؟.. قالوا إنهم ذاهبون إلى هناك، لم نتكلم بكلمة ثانية، كان السيدة تتصل بوالدتها وتخبرها أنهما تركوا الأولاد في البيت ونزلوا للاحتفال، وكان واضحاً أنهم لم يشاركوا في المظاهرات من قبل، لكن الجميع كان يدرك أن التحرير صار هو قبلة المحتفلين!
عندما وصلت للشارع الرئيس، كانت سيارة تمرق سريعاً، يقودها شاب وتجلس بجواره فتاة عشرينية، فتحت زجاج السيارة وكانت في حالة هيستريا وهى تسبنا وتتهمنا بالخيانة والتمويل، وربما لهذا كان الشاب يسير سريعا خوفا عليها من اعتداء متظاهرين!
كثيراً ما تذكرت هذه الفتاة، كانت بالنسبة لي أكثر شرفاً من الذين فتحوا النوافذ بعد أن منعونا حتى من دخول دورات المياه بالعمارات التي يقطنون فيها!
بدت مصر كلها تحتفل بتنحي المخلوع، إلا هذه الفتاة، الناس خرجوا من بيوتهم، وكنت أسأل في سري: كلكم كنتم معنا؟ كلكم كنت تتمنون رحيل مبارك؟ كلكم ترون الآن أن تنحيه يستلزم الاحتفال؟!
لماذا لم تشعرونا بهذا من قبل؟.. لماذا كان الشعور دائما أننا وحدنا، ولم نسمع حتى ما يشير لهذا التعاطف الجماهيري الكبير معنا؟.. ومع هذا ظلت الفتاة التي كانت تهتف: يا خونة يا عملاء؛ هي الأكثر تقديراً عندي، إن هذا هو رأيها، متأثرة بالأكاذيب التي روجها إعلام مبارك، ولم يكن انتصارنا مبرراً لها لمسايرة الجو العام.
قبل نهاية كوبري الجلاء من ناحية التحرير، وبعد الإسعاف ببضع خطوات، كان مستحيلاً أن تتحرك السيارة خطوة أخرى، فقد كان الزحام سريعا. نزلت منها وشكرت صاحبها الذي تفضل مشكورا بنقلي، وترجلت إلى الميدان. وكانت الأفراح تعم مصر مصر كلها، وسكان القاهرة يندفعون للتحرير، وهناك رأيت من هتف في وجهي ذات مرة: مبارك أبونا.. حرام عليكم. ارحموا سنه. كان يخبط رأسه في الجدار مستدعياً الدموع، لكنه كان قد وصل للميدان قبلي، وحمل أولاده معه ويقوم بالتقاط الصور معهم وهم يحتفلون بتنحي مبارك.. لمحني فأسرع نحوي وعانقني وشكرني على دوري في تخليص مصر من مبارك.. إن هذه الفتاة التي قامت بسبنا أشرف منه!
ما هي الدروس المستفادة من هذا؟
الدرس الأول: إن دفاع البعض عن السيسي لا يعني أنهم مستعدون للدفاع عنه إذا سقط، إنه فقط تماهٍ مع القوة!
والدرس الثاني: إن اليأس الذي كان يلفنا في هذا اليوم قد يكون بداية النصر.
والدرس الثالث: إن الجيش الذي أعطى التحية للثورة وشهدائها في هذه الليلة، سيفعلها إذا غادر المأسوف على شبابه.
فإن مع العسر يسرا.
أضف تعليقك