بقلم..عمرو دراج
كانت سعادة الناس باستقالة حسني مبارك لا توصف. حصل ذلك في الحادي عشر من فبراير/شباط 2011 – أي قبل ثمانية أعوام بالضبط. كان المصريون المطالبون بالحرية، بكل معتقداتهم وأعمارهم وخلفياتهم، يقفون في صعيد واحد وعلى قلب رجل واحد في ميدان التحرير وقد تعاهدوا على عدم التزحزح من مواقعهم قبل طي صفحة من الطغيان استمرت ثلاثين عاماً.
كنا نعتقد بوصفنا القوة الإقليمية الأقدم والأعرق، واستلهاماً للنجاح الذي أحرزته الثورة التونسية وهو غير بعيد منا، أننا على وشك إطلاق سلسلة متتابعة من الأحداث التي ستعيد لمصر حريتها وكرامتها.
ولكن بعد ثلاثين شهراً تحول الحلم إلى كابوس. ربما كان الخطأ الأفدح الذي وقعنا فيه هو ترك العسكر يديرون المرحلة الانتقالية، فالثورات لا تسلم السلطة لأعمدة النظام البائد.
ولعلنا هيمنت علينا فيما بعد حالة من القناعة والرضى، حيث منحتنا انتخاباتنا الرئاسية الحرة الأولى وما تلاها من استفتاء على الدستور الجديد شعوراً بالثقة بأن التغييرات الحاصلة لا قبل لأحد بالتراجع عنها.
إلا أن حالة التضامن التي تميزت بها احتجاجات ميدان التحرير بدأت في التلاشي، ولم تتمكن حكومة محمد مرسي ولا أي من القوى السياسية الأخرى من حل الخلافات أو تبديد المخاوف –سواء من قبل النظام القديم أو الأحزاب السياسية أو الجيش أو حتى الجماهير في الشارع– التي أخذت تنتشر بسرعة في أوصال الحياة العامة.
لقد ارتكبنا أخطاء. فالحكومة التي خدمتُ فيها وزيرا لم تتمكن من عزل مخلفات نظام مبارك من العناصر المتنفذة في الدولة ولم تتمكن من تحقيق الإجماع داخل البلاد، التي عانت طوال الوقت من نقص في الوقود والغاز والكهرباء، الأمر الذي كان يفاقم من حالة الشقاق والنزاع. أعطينا الأولوية لإقامة المؤسسات الديمقراطية، ثم في الثالث من يوليو/تموز لم يستغرق تفكيكها جميعاً سوى ثلاث دقائق: الرئاسة والبرلمان والدستور، وكان الأولى بنا الانشغال بادئ ذي بدء بإصلاح مخلفات النظام القديم.
في شهر نوفمبر 2012، عندما أعلن مرسي أن مراسيمه ستكون، مؤقتاً، فوق أحكام المحكمة الدستورية، ظن البعض أنه تحول إلى دكتاتور، على الرغم من أن قصده من ذلك كان حماية دستور البلاد الجديد، رغم أنه في واقع الأمر ضيق صلاحياته ولم يوسعها. لكن الذي حصل أن إجراءه ذلك فتح الباب أمام دعوات جديدة للاحتجاج ومطالبات بتغيير النظام، وتمخض عن ذلك في نهاية المطاف الانقلاب العسكري الذي قام به الجنرال السيسي. ما زال هجوم الأرض المحروقة على المتظاهرين في ميدان رابعة واحداً من أحلك الأيام في تاريخ مصر الحديث، وكان بمثابة إعلان موت أحلام الربيع العربي.
تشعر بالألم يعتصرك كلما تذكرت كلمات باراك أوباما بعد استقالة مبارك: "لقد تكلم الشعب في مصر، ولقد أعلن بوضوح أنهم لن يقبلوا بأقل من ديمقراطية حقيقية تحكمهم". وها نحن الآن نجد أنفسنا تارة أخرى مستعبدين من قبل دكتاتور عسكري نزوي ومتوحش– إلا أن هذا الدكتاتور أسوأ من مبارك، بل وحتى أسوأ من جمال عبد الناصر. كان تأثيره على الحياة المدنية المصرية مباشراً، ولقد عبرت عن ذلك ببلاغة فائقة داليا فهمي، أستاذة العلوم السياسية في جامعة لونغ آيلاند في نيويورك، حين قالت: "يتعرض المجتمع المصري للسحق".
والآن، لم تعد التفاصيل المرعبة خافية على أحد: يعاقب السيسي يومياً المعارضين والنشطاء، فمن الاعتقالات غير القانونية إلى عمليات الإخفاء القسري، إلى القتل خارج القانون. ويتم إلقاء القبض على النساء اللواتي يشكين ضد التحرش الجنسي.
واليوم، تحبس مصر من الصحفيين بتهمة "نشر الأخبار الكاذبة" أكثر مما تحبس أي دولة أخرى. وتتحدث منظمة هيومان رايتس واتش عن "انتشار وباء التعذيب" في السجون المصرية، بينما تتحدث منظمة العفو الدولية عن أن الذين يعيشون خارج المعتقلات إنما هم في "سجن مفتوح". وبسبب إخفاق السيسي في معالجة ظاهرة الإرهاب التي يدعي أنه يحاربها، تحتل مصر المرتبة التاسعة في قائمة مؤشر الإرهاب العالمي لعام 2018.
بينما كنت أعمل في إعداد هذه المقالة تم تنفيذ حكم الإعدام بثلاثة شباب من أعضاء جماعة الإخوان المسلمين هم أحمد الهنداوي وعبد الحميد متولي والمعتز غانم. وكلهم لفقت لهم تهم بناء على اعترافات أخذت منهم تحت التعذيب.
ومع ذلك تتفرج أوروبا دونما مبالاة. ففي منطقة تنزع نحو الفوضى والعنف يضمن السيسي، ذلك "الرجل القوي"، الاستقرار – أو على الأقل هذا ما يظنه قادة مثل إيمانويل ماكرون. إلا أن عقلية الحرب الباردة هذه تدفع بمصر نحو الهاوية لتصبح دولة فاشلة تماماً.
تنفق حكومة السيسي ببذخ على مشاريع لم يسبق أن أعد لها حتى دراسات جدوى أساسية، وفي سياق ذلك تجده يحرم المدارس والمستشفيات من الموارد ليصب بها في بطن الجيش المنتفخ. يعيش ثلث المصريين عند خط الفقر أو دونه، حتى إن مشروع الإنذار المبكر يضع مصر في المرتبة الثالثة في قائمة الدول التي من المحتمل أن تشهد عمليات قتل جماعية كبيرة هذا العام. ورغم ذلك، يدفع السيسي ومؤيدوه باتجاه تعديلات دستورية تضمن له البقاء في منصب الرئاسة حتى عام 2034.
بالإضافة إلى ذلك، تدعو التعديلات إلى تدخل العسكر "لحماية الدستور والدولة فيما لو تعرضا للتهديد". ورغم أن تدخل العسكر مألوف في مصر إلا أن هذه هي المرة الأولى في التاريخ المصري التي يصبح فيها ذلك التدخل منصوصاً عليه في الدستور.
إذا لم تفعل أوروبا شيئاً إزاء سلطوية حكومة السيسي، ثم إذا ما فشلت مصر، فإن العواقب ستكون وخيمة جداً. فالكوارث التي تعرضت لها كل من سوريا بسبب الحرب الأهلية وليبيا بسبب فشل الدولة فيها – علماً بأن سكانهما يشكلون أقل من عشر تعداد السكان في مصر – دفعت باللاجئين البائسين إلى الفرار عبر المتوسط بأعداد غير مسبوقة.
ولو انفجرت مصر عنفاً فما من شك أن أزمة اللاجئين وحدها ستهز القارة الأوروبية من قواعدها، وأي تصدير للإرهاب من شأنه أن يزيد من سعار القومية الأوروبية ويفاقم من مشاعر الخوف والكراهية تجاه الأغراب.
وعلى الرغم من أن السيسي يستخدم نفس هذه الحجج ليبتز أوروبا حتى تدعمه، إلا أن نظامه هو الذي يتحمل المسؤولية الأساسية عن أي انعدام للاستقرار تعاني منه مصر.
على الرغم من أن البعض يظن بأن أحلام الربيع العربي قد انتهت، إلا أن القيم والأفكار التي انطلق منها مازالت حية. ثمة رغبة شديدة لدى ملايين المصريين في العيش بحرية وكرامة في مجتمع ديمقراطي يضمن لهم العدالة. وإذا كانت أوروبا هي فعلاً معقل الديمقراطية في العالم، فلا ينبغي أن يتخلى حكامها عن مبادئهم لصالح واقعية سياسية خرقاء.
أضف تعليقك