بقلم د. جمال عبد الستار
بثت قناة الجزيرة فيلما تسجيليا عن تلك الظواهر التي ألمت بالشباب عقب الأحداث الدامية، والتحولات العنيفة، والفتن المزلزلة.
وأقول بداية: لا يعيب الدين أن يُسىء أحد فهمه، أو أن تغيب عن أحد مقاصده، ولا ينقص الدين أن يخرج على مبادئه فرد أو أكثر مهما علا شأنه أو اتسع أثره. فدين الله راية حق تولى الله حفظها، وعقيدة صدق غرس الله في الفطر السليمة محبتها، ومنطق حق يأسر العقلاء بعظيم براهينه، ولم تتمكن قوة على مدار العصور والأزمنة أن تنال منه، بل على العكس، كلما ازدادت المحن ازداد رسوخا واتسع انتشارا.
وكم من المفكرين من شرد بعيدا فكره، واختلطت المعطيات في عقله، وتسلطت الوساوس على قلبه، ولكنه وبعد طول بحث لم يجد شاطئ أمانه إلا في الإسلام، ولم يجد طمأنينة قلبه إلا في الإيمان، ولم يعثر على شفاء وساوسه إلا في القرآن.
ولكن لفت نظري حقيقة أن النماذج التي ذكرها البرنامج قد عصفت بها الأحداث دون أن تجد طبيبا ماهرا يكتشف مظاهرها، أو مربيا أريبا يمسح بيد الرفق أعراضها، ويحصن الشباب من خطرها.
لم يجد الشباب راية إنصاف، فقد ضاعوا بين عنف الطغاة وغياب الدعاة.. بين تغييب المربين والقدوات وسقوط الرموز والمؤسسات.
ضاعوا بين خطاب الكراهية ونشر الخوف واستباحة الدماء والأعراض، وبين انشغال التيارات الإسلامية بصراع العمل السياسي على حساب الواجب الدعوي والزاد التربوي.
ذهب الشباب ضحية تجاذبات واختلافات ونزاعات لم يكونوا فيها إلا مجرد أدوات.
ذهب الشباب ما بين غريب مطارد يبحث عن أمن النفس ولقمة عيش وتوفير المأوى ومعاناة الحياة، وما بين غريب في وطنه يستنكر كل ما حوله، فلا أفق للمستقبل القريب، ولا سلوى في الواقع المريب، ولا عزاء لماض أسيف.
وإن هذه الأعراض والمظاهر لتدق ناقوس الخطر في كل بيت، وتحذر الآباء والأمهات في كل مكان، وتستصرخ الدعاة أن أفيقوا من غفلة الرقاد، واحذروا من نزول ميدان الدعوة بلا زاد.
لكن وفي نفس الوقت ومع أهمية ما قامت به قناة الجزيرة من استصراخ، إلا أنني أجد في المعالجة قصورا، فلا تعقيب لتربوي أريب، أو لمتخصص نفسي حصيف، أو لعالم شرعي مليء!
وهل كان من لوازم طرح الفكرة المبالغة في سفور الفتاة المسكينة، والتصوير على سرير الفندق بهذه الطريقة المبتذلة؟!!
والنماذج التي ذكرها البرنامج هم ضحايا أزمات اجتماعية وسياسية ونفسية؛ أكثر من كونها مشكلة دينية، أو شبهات عقدية.
وأيضا لم يكن الشباب في تيه بين التشدد والانحراف فحسب، بل هناك آلاف النماذج الناجحة والتجارب المفرحة. وإن إشاعة السوء دون معالجته سوء، ونشر الظواهر السلبية منفكة عن مقابلها من النجاحات سلوك شائن، ومع ذلك فأرى أنه يجب علينا ما يلي:
- أن الصرخة لا بد أن تصك أذن كل داعية، وأن تؤلم قلب كل مربّ، وأن تستفز عقل كل مفكر، وأن تستنهض رؤية كل سياسي، وأن تشحذ فكرة كل إعلامي ليهب الجميع اليوم قبل الغد لحماية ثروة الأمة من الإهدار، وعقيدتها من التشويه، وقيمها من التزييف، وفكرها من التحريف.
- أرى أن نفتح قلوبنا وعقولنا وأحضاننا لاستيعاب هؤلاء الشباب المكلومين، وإثراء الحوار معهم دون تعنيف أو تخويف أو تهديد.
- أرى أن نتسابق لفتح آفاق لاستيعاب أبنائنا في المؤسسات التعليمية، وأن يتداعى العلماء لملء الفراغ الذي شغله شياطين الأنس بدسائسهم، وشياطين الجن بوساوسهم.
- أرى أن ميدان الدعوة الحكيمة لن يستطيع أحد إغلاقه، فما من مؤذن رفع الآذان بصدق إلا وتولى الله ابلاغ صوته إلى كل الآفاق، وفي وسائل التواصل غنية عن كثير من المنابر والوسائل.
- أرى أن نعيد طرح الثوابت بعد تخليصها مما علق بها من زوائد، وطرح ما ألم بها من ادعاءات. وأن نعيد طرح المتغيرات على اتساعها دون خلط، ليعلم العقل أين ميدانه، ويعلم القلب أين اطمئنانه، وتعلم النفس أين تسليمها.
- أرى أن نؤكد أن عبادة الزلزلة هي الثبات، وعبادة المحنة هي التثبت، وعبادة الأزمات تتمثل في صناعة الحلول واستنهاض الطاقات وفتح أبواب الأمل.
أضف تعليقك