بقلم: الأستاذ مصطفى مشهور
أرانى أشعر بالعجز عند الكتابة حول موضوع الزاد على الطريق وخاصة حول كيفية التزود وكيف ننهل من زاد الإيمان و التقوى و الهداية و النور ، فالأمر ليس أمر خبرة وتجربة ومعرفة لكنَّه بالدرجة الأولى يرجع الى تفضل المعطى الوهاب سبحانه وتعالى ( يختص برحمته من يشاء ) وهو الذى يمنُّ علينا بالهداية والإيمان ويفيض بأنواره ورحمته بلا حدود فلا حرج على فضل الله .
( يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علىّ إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين) ،
( ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم ) .
الله مصدر كل خير :
فالله سبحانه مصدر كل خير ولكنه تفضلاً منه ورحمة بنا أرشدنا الى الوسائل والأسباب التى نأخذ بها كى نستجلب هذا الزاد منه سبحانه ، ولو دققنا لوجدنا أن الأمر بالدرجة الأولى يرجع الى حال العبد الذى يقف بباب ربه يسأله ليعطيه ، فيطلع منه ربه على خضوعه وخشوعه وذله وافتقاره إليه وخوفه منه وخشيته له ورجائه منه وطمعه فى رحمته ، هذا هو الأصل ثم تأتى بعد ذلك الوسائل والأسباب ، وبقدر صدق العبد فى هذه الأحوال يكون العطاء و الفضل من الله الوهاب .
من هنا أجدنى أشعر بالإشفاق على نفسى وقد يصل الإشفاق الى الخوف عندما أجدنى أتعرض لإرشاد غيرى فى هذا الأمر وقد لا أكون أهلاً لذلك .ولكن أمام إحساسى بالحاجة الماسة و الضرورة الملحة لهذا الزاد بالنسبة لكل من يسلك طريق الدعوة فإنى أستعين بالله وأكتب لمحات للاسترشاد بها .
ولما كان هذا الزاد شأن كل زاد قابل للزيادة و النقصان ، بل قد يتعرض للنفاد ، لزم أن يحرص كل منا على تجديده وزيادته و المحافظة عليه من النقصان و النفاد ، وكما سنرى نجد أن الله قد يسر لنا الأسباب وفى كل الأوقانت دون عوائق .
القرآن :
ومن أهم وأيسر وأغزر الوسائل وأكثر فيضاً كتاب الله العزيز فهو معين لاينضب من الزاد ، بل إننا نجد فيه أيضاً التوجيه الى غيره من الوسائل التى نتزود بها ، إننا نجد فيه النور و الهداية و الرحمة و الذكر .
فالقرآن يرشدنا الى أن تلاوته من أفضل الوسائل للتزود بالإيمان وتقوى الله ، ويرشدنا الى توحيد الله الذى يحقق السلام و الطمأنينة داخل النفس ، ويوجهنا الى عبادة الله التى تكسب صاحبها الزاد المتجدد من تقوى الله ، ويدعونا الى التفكر فى خلق الله فنتعرف من خلاله على صفات الله فيتولد تعظيمنا وإجلالنا وتقديسنا لله سبحانه وتعالى وفى ذلك خير زاد من الإيمان بالله وتقواه ، وفى القرآن نجد العظة و العبرة من قصص السابقين من الرسل وأقوامهم مما يزودنا بالخبرة و الحكمة ونحن ندعو الى الله .
و القرآن يطلب منا طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم والاقتداء به وفى ذلك خير عون وإرشاد فى الطريق ، وفى القرآن التوجيه الى فعل الخير و الحث عليه و التحذير من الشر و البعد عنه ، وفيه التذكير باليوم الآخر و البعث و الحساب و الجزاء ، فيه الترغيب فى الجنة و التبشير بها و الترهيب من النار و التنفير منها ، وبالجملة نجد فى القرآن كل خير يحتاجه الإنسان لتتحقق له السعادة والآخرة ويحفظه وينجيه من العنت و الشقاء فى الدنيا ومن عذاب الآخرة ، كما أن فيه كل مقومات التربية التى تصنع رجال العقيدة وتفجر فيهم طاقات الخير :{ إن هذا القرآن يهدى للتى هى أقوم } ، { هذا بصائر للناس وهدى وموعظة للمتقين } :{ وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين } ، :{ يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما فى الصدور وهدىً ورحمة للمؤمنين } ، :{ قد جاءكم من الله نورñ وكتاب مبين يهدى به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات الى النور بإذنه ويهديهم الى صراط مستقيم } .
من الجاهلية الى الإسلام :
لو تساءلنا ما الذى جدَّ على الجزيرة العربية وغيَّر تلك الأمة من الجاهلية التى كانت عليها بكل ألوان فسادها وضلالها الى خير أمة أخرجت للناس ، وصنع منها رجالاً بل نماذج فذة ضربت أروع الأمثلة فى كل ميادين الخير ؟ لو نظرنا لوجدنا أن الذى جدَّ على الجزيرة هو نزول هذا القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل به الأمين جبريل على الأمين محمد صلى الله عليه وسلم فبلغه بأمانة الى الناس ثم تربى من آمن من المسلمين فى مدرسة رسول الله صلى الله عليه وسلم على مائدة القرآن ، فغيرهم القرآن وصنع منهم تلك النماذج التى قامت على أكتافها الدولة الإسلامية وتمت على أيديهم الفتوحات الإسلامية وعم النور وتبدد الظلام ، رأينا من استحوذت عليهم العقيدة الإسلامية وتحملوا صنوف العذاب دون أن يتخلوا عنها ، واسترخصوا أرواحهم وأموالهم فى مقابل ثباتهم على عقيدتهم ، فياسر وسمية وبلال وصهيب وغيرهم رضى الله عنهم جميعاً نماذج رائعة ستظل مضرب الأمثال على مر الأجيال .
راينا رجالاً ضربوا المثل فى مجاهدة أنفسهم و الترفع بها عن كل قبيح و التحلى بكل خلق فاضل ، ضربوا الأمثال فى الصدق و الوفاء والأمانة و الحلم و الزهد وو الحب والإيثار و الجهاد ومجالدة الأعداء و الجود وإقامة العدل و الشعور بالمسئولية ، خرج من الشباب من كان أهلاً لقيادة الجيوش كأسامة بن زيد رضى الله عنهما .
القرآن بين أيدينا :
ها هو ذا القرآن بين أيدينا دون تحريف فقد تعهد الله بحفظه :{ إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون } وها هى ذى مدرسة رسول الله صلى الله عليه وسلم ماثلة أمامنا فى سيرته وسنته ، فهل يمكن أن تغير وتتخرج منا نماذج شبيهة بتلك النماذج ؟
أقول نعم لو أننا تعاملنا مع كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كما تعامل المسلمون الأول .
كان المسلمون الأول يعظمون القرآن حين يسمعونه أو يتلونه لأنه كلام الله العظيم الكبير المتعال ، ويقدرون فضل الله ولطفه بخلقه فى إيصال معانى كلامه الى أفهام خلقه فى طى حروف وأصوات هى من وسائل البشر ، كانوا يستمعون إليه بقلوب حاضرة وبتدبر وتفهم متخلين عن كل موانع الفهم ، يسمعه كل واحد منهم وكأن الله يخصه فيه بكل أمر أو نهى ، متأثرين بكل ما فيه من عظات وعبر وزواجر ومبشرات كلما سمعوا نداء :{ يا أيها الذين آمنوا } أصغوا فى انتباه واهتمام كبير بما سيأتى بعد هذا النداء من توجيه أو أمر أو نهى لينزلوا عليه وينفذوه بكل دقة وتسليم مطلق ورضاً كامل دون تردد أو تراخ ، فإنه ليس نداء أحد من البشر ولكنه نداء من الله خالق البشر صاحب الملك و الجبروت ، هكذا كان حالهم مع كتاب الله ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى كل ما يدعوهم إليه ويأمرهم به أو ينهاهم عنه فقد ايقنوا أنه صلى الله عليه وسلم لاينطق عن الهوى ولكن بوحى وتوجيه من الله .
{ إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا الى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون } ، { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم } ، { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لايجدوا فى أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً } ، { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } :{ من يطع الرسول فقد أطاع الله } وبذلك صار قرآناً حياً يمشى على الأرض وكانوا يستعينون بالعمل على الحفظ لا بالحفظ على العمل .
أما مسلموا اليوم فقد ورثوا الإسلام دون جهد أو معاناة ، ورثوه مجتزأ محشوا بالبدع و الخرافات ، ورثوه وقد سلب منه جوهره وحيويته ، ورثوه فى فتور وضعف وخمول ، لم يقدروا منزلتهم بهذا الدين الحق ، لم يستشعروا عظمة هذا القرآن باعتباره كلام رب العالمين ، هجروه وأعرضوا عنه وإذا استمعوا إليه لم يتدبروه أو يتأثروا به أو ينزلوا على أوامره ونواهيه ، وإنما شغلهم نغم القارىء وألحانه وكأنهم يسمعون مغنياً وتسمع لهم جلبة وضوضاء تعبيراً عن إعجابهم بصوت القارىء ولو تدبروا وتأثروا لأنصتوا فى خشوع كأمر الله تعالى :{ وإذا قرىء القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون } وبئس هؤلاء القراء الذين يعجبون بهذا التهريج ، ولو احترموا القرآن لطلبوا من المستمعين الإنصات فإن أبوا وقفوا عن القراءة .
إن كثيراً من مسلمى اليوم ألهتهم الحياة الدنيا وزحمت عليهم أفئدتهم وعقولهم وصارت حوائل تمنع نور القرآن من أن يشع فى قلوبهم فيضيئها بنور الإيمان :{ كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون } .
نماذج يمكن أن تتكرر :
ورغم ذلك فقد شاءت إرادة الله أن يبقى الخير فى أمة محمد صلى الله عليه وسلم الى يوم القيامة ، فحينما أراد الله أن يجدد لهذه الأمة أمر دينها على يد الإمام الشهيد حسن البنا رحمه الله إذ علم سر القرآن وتأثيره فى النفوس فجمع الإخوان على كتاب الله وسنة نبيه وأرشدهم ورباهم على ما كان عليه السلف الصالح من تعامل مع القرآن وتأدب بآدابه وامتثال لكل توجيهاته ، ومع مدارسة السيرة وإظهار النماذج الرائدة التى تخرجت على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بنا نجد صوراً لهذه النماذج تتكرر ، ظهرت فى مجالات مختلفة فى الجهاد و الفداء والاستشهاد فى فلسطين و القنال وظهرت بين الناس كنماذج رائعة فى امتثال تعاليم الإسلام فكانوا موضع الثقة بصدقهم ووفائهم وأمانتهم وحسن خلقهم ، وظهرت فيمن تحملوا الإيذاء و التعذيب والابتلاء من أعداء الله وثبتوا ولم يتخلوا واتخذ الله منهم شهداء ، وظلت الراية مرفوعة حتى يسلموها لمن بعدهم عالية دون تفريط أو ضعف أو تهاون ودون تبديل ولا تغيير :{ من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً } ، :{ فما وهنوا لما أصابهم فى سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين } .
تعالوا نحسن تعاملنا مع القرآن :
وبعد أن وضح لنا أثر القرآن وكيف يغير النفوس ويضىء لها الطريق ويهديها الى الصراط المستقيم ، وأن تلاوته تزيد المؤمن إيماناً بالله وتوكلاً عليه كما قرر الله ذلك فى قوله تعالى :{ إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون } ، فلو قدر القارىء ربه حق قدره وخشى الله لتأثر بالقرآن واقشعر جلده عند تلاوته أو سماعه فالله تعالى يقول :{ الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثانى تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقولبهم الى ذكر الله ذلك هدى الله يهدى به من يشاء من عباده } ، :{ لو أنزلنا هذا القرآن عل جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون } .
لو أحسنَّا الصلة بآية واحدة من كتاب الله لسرى تأثيرها وهزت المشاعر وأنارت القلوب كتيار الكهرباء حينما يحدث الاتصال تسرى الكهرباء وتنير وتولد الطاقات أما وجد العازل لم يسر التيار ولم يحدث له أى تأثير .
– القرآن يعالج قضية الإيمان بكل جوانبها ويدلل عليها فى مواطن كثيرة بما ييسر الإيمان لغير المؤمن وبما يزيد المؤمن إيماناً كلما قرأ القرآن أو استمع إليه .
– القرآن يحدد لنا رسالتنا فى هذه الحياة الدنيا لنؤديها ولا نحيد عنها وذلك فى قوله تعالى :{ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } .
– القرآن يتعهدنا ويرشدنا كيف يكون حال المؤمن وموقفه من الأحوال المختلفة لنسلك سبيل المؤمنين فى أقوالنا وأفعالنا ، نلجأ الى الله عند الفقر أو المرض أو الضيق والشدة وعند لقاء العدو وكذا الشكر على نعمه علينا وهكذا وهذه الآيات توضح ذلك :{ فقال رب إنى لما أنزلت الىّ من خير فقير } ،{ وأيوب إذ نادى ربه انى مسنى الضر وأنت أرحم الراحمين } ،{ وذا النون إذ ذهب مغاضباً فظن أن لن نقدر عليه فنادى فى الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إنى كنت من الظالمين فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجى المؤمنين } :{ ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبراً وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين } ،{ حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعنى أن أشكر نعمتك التى أنعمت علىّ وعلى والدىّ وأن أعمل صالحاً ترضاه وأصلح لى فى ذريتى إنى تبت إليك وإنى من المسلمين } .
– ونجد القرآن يحذرنا ويحمينا من الوقوع فى دائرة اليأس و القنوط من رحمة الله ويبعث فينا كل معانى الطمأنينة و الراحة النفسية والأمل و الطمع فى رحمة الله :{ قل ياعبادى الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم } .
– الداعى الى الله يجد فى القرآ، خير عون وخير زاد له على الطريق حيث يتعرف على أسلوب الدعوة الصحيح عل لسان الرسل الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وكيف كانوا يصبرون على أذى أقوامهم ويرغبون فى الإيمان وينفّرونهم من الكفر و العصيان .
– ففى قراءة القرآن وحفظه خير زاد للداعى الى الله يعينه على الاستشهاد بالآيات القرآنية عند الحديث فى أى معنى من المعانى مما يجعل حديثه اكثر تأثيراُ فى النفوس .
الاتباع و التطبيق :
لنتدبر القرآن حين نقرؤه وإذا لم نتمكن من التدبر إلا بترديد بعض الآيات فلنردد ، فقد ورد بإسناد صحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام بآية يرددها وهى قوله تعالى :{ إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم } .
ليكن همنا الأول من القراءة الاتباع و التطبيق :{ واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم } ، ولنتبع توجيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فى قراءتنا للقرآن حيث يقول فى حديث متفق عليه اقرؤوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم ولانت له جلودكم فإذا اختلفتم فلستم تقرأونه ) وفى رواية فإاذ اختلفتم فقوموا عنه ) .
ولنحذر أن تشغلنا مخارج الحروف وأحكام التلاوة عن التدبر و التفهم فينصرف كل الاهتمام إليها دون المعنى و التأثر به .
ولنداوم على تلاوة القرآن ولا نهجره كى يتجدد الزاد ولتدم صلتنا بالله عن طريق تلاوة كلامه ، ولنحفظ ما استطعنا فإنه يعين فى الصلاة وقيام الليل والاستشهاد بالقرآن فيما ندعو إليه ، وقد تعرض لك ظروف يحال فيها بينك وبين كتاب الله المسطور فترجع الى الرصيد الذى حفظته :{ ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدَّكر } .
أضف تعليقك