للأمة الإسلامية خبرات عميقة وتجارب رائدة في نضالها للتحرر من المستعمر، وما خلفه من نخب وأعوان، ومن نظم عسكرية أو مدنية مستبدة مفسدة، فقد استمر هذا الصراع أكثر من قرنين من الزمان في بلدان الربيع العربي، وعلى أرض فلسطين المباركة.
وكان إجراء أول انتخابات حرة ونزيهة في مصر - أسفرت عن انتخاب أول رئيس مدني من أبناء الثورة - إيذانًا بجولة جديدة تحالف فيها المحتل الغاصب مع الثورة المضادة التي قادها الانقلاب العسكري في مصر.
ويأتي علينا شهر "ثورة 25 يناير" والمحتل الصهيوني يمارس أشد ألوان العسف والحصار والتجويع والتنكيل بالشعب الفلسطيني عامةً، وبالأسرى في سجونه خاصة، كما تمارس سلطات الانقلاب العسكري في مصر أبشع ألوان القتل والتشريد والإيذاء والعنت على من بقي من جماهير الثورة خارج السجون، أو من بقي من رموزها داخل السجون والمعتقلات، رجالاً ونساءً.
ويتصدر أسرى المقاومة الفلسطينية داخل سجون الاحتلال وأسرى الثورة المصرية في سجون الانقلاب مشهد المواجهة مع الاحتلال الصهيوني، ومن يحالفه ويدعمه من دول الاستعمار القديم والحديث من جانب، ومن جانب آخر مع من استسلم لهم من نظُم مدنية وعسكرية، تتنافس في التنازل عن كرامتها وأرضها وثروات أوطانها؛ لكي يحميها ذلك المستعمر من شعوبها, ويغضُّ الطرف عن جرائمها، وتلك هي حقيقة ذلك النظام العالمي الظالم الذي تخلى عن العدالة وفقد كثيرًا من معايير الإنسانية.
وإذا سألنا أنفسنا: كيف صار من لا حول له ولا قوة في سجون الاحتلال ومن حُبس صوته معه في القفص الزجاجي ومُنع المحامون من حضور التحقيقات معهم أو معهن، تتصدر أخبارهم مشاهد مواقع التواصل الاجتماعي وقنوات فضائية وتقارير للجمعيات الحقوقية..، لتأكّد لدينا أن هؤلاء الأسرى الثابتين على مبادئهم في فلسطين وفي مصر وفي كثير من بلدان الربيع العربي قد منّ الله عليهم بالقسط الأوفر مما وصفه الأستاذ البنا "بالقوة النفسية العظيمة التي تتمثل في الإرادة القوية التي لا يتطرق إليها ضعف ولا وهن، والتضحية العزيزة التي لا يحول دونها طمع ولا بخل، والوفاء الثابت الذي لا يعدو عليه تلون ولا غدر، ثم المعرفة بالمبدأ والإيمان به والتقدير له الذي يعصم - بإذن الله - من الخطأ فيه أو الانحراف عنه أو المساومة عليه أو الخديعة بغيره"..
تلك القوة النفسية هي التي وحّدت صف الأسري في سجون الاحتلال، كما وحّدتهم في سجون الظالمين المستبدين، فبعثت فيهم جميعًا الأمل، وهوّنت عليهم غربة السجن ووحشته، وأقامت الحجة على كل من عافاه الله من السجن أو ستره عن أعين المحتل والمستبد، وأضافت درسًا إلى دروس المحنة وخبرة إلى خبراتها، مفادها أن امتلاك الصبر على الأذى والثبات على الحق والاستمساك بالكرامة نتيجته الحتمية زوال الكرب، وهو مقدمة النصر وفاتحة الخير، فها هو المحتل يُرغم صاغرًا على إعادة حقوق الأسرى التي حاول الانتقاص منها، وكف عن تهديدات علم أنها لن تثني الشعب الفلسطيني عن احتضان مقاومته ودفاعه عن مقدساته واستمساكه بحق العودة.
فيا خير أمة أخرجت للناس.. إذا سألتم فلا تسألوا إلا الله، وإذا استعنتم فلا تستعينوا إلا بالله، ومُروا بالمعروف وانهَوا عن المنكر، واصبروا على ما أصابكم "وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ" (هود - 113)، واعلموا أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرًا".. "وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ۚ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ ۚ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا" (2-3 الطلاق).
أ.د. محمود عزت
القائم بعمل المرشد العام
السبت 20 جمادى الأولى 1440هـ = 26 يناير 2019م
أضف تعليقك