رسالة سابقة من: د. محمد بديع- المرشد العام للإخوان المسلمين
الحمدُ لله، والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ، وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد..
فقد كانت فلسطين ولا تزال محورَ الصراع العالمي منذ أن فتح الله القدسَ وتسلم مفاتيحَها عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه، منذ ذلك الوقت وأعداء الأمة يديرون الصراع من وقت لآخر، همُّهم وهدفُهم أن يُخرجوا أهل فلسطين مرَّةً أخرى من الأرض التي بارك الله حولها.
حاول الصليبيون في حروب صليبية استمرت قرابة قرنين من الزمان، ذهبوا بعدها كما ذهب غيرهم من الظالمين، ثم جاءت العصابات الصهيونية التي غرسها الغربُ الاستعماريُّ في قلب الأمة في فلسطين، وعملوا على تفريغها من أهلها، والاستيلاء على ممتلكاتهم مسلمينَ ومسيحيينَ وتهديد مقدساتهم.
الكيان الصهيوني لا يمكنه البقاء إلا بحبل من الناس
الحقيقةُ أن الصهاينةَ أذلُّ وأضعف من أن يكونوا قوةً لا تُقهر، كما يحاولون أن يروِّجوا لأنفسهم ويروِّج لهم المنهزمون نفسيًّا من بني جلدتنا، وقد وصف القرآن الكريم جُبْنَهم وصفًا واضحًا ﴿ضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنْ اللهِ وَحَبْلٍ مِنْ النَّاسِ﴾ (آل عمران: من الآية 112).
ولولا هذا الحبل من الناس المذكور في القرآن لكان للأمة مع هذا الكيان اللقيط شأنٌ آخر، فما هذا الحبل من الناس؟ إنه اسم جنس يأخذ صورًا متعددةً:
1- أول ذلك: حبل أعداء الإسلام قاطبة، فالدولة الصهيونية لا تملك مقومات الدولة المستقرة الآمنة، وإنما تعتمد على الدعم المعنوي، والسياسي، والإعلامي، والاقتصادي، والعسكري من الغرب والشرق، والأموال تُصبُّ على الكيان الصهيوني صبًّا، والمواقف السياسية الظالمة المدافعة عنهم تُعلن علنًا، وهذا سببٌ عظيمٌ من أسباب قوتهم وبقائهم، رغم ضعف بنيانهم، وجُبْن نفوسهم، ورغم كثير من مشكلاتهم.
لقد رأينا وعد بلفور" الذي أعطاه من لا يملك لمن لا يستحق، ورأينا تدريبهم في كتائب جيوش الحلفاء في الحرب الثانية، ورأينا المسارعة الأمريكية والسوفيتية بالاعتراف بدولتهم قبل مرور ثلاث دقائق على إعلانها، إلى غير ذلك من صور الدعم العسكري والسياسي اللا محدود.
ولكن مهما بدا حبل أمريكا وأوروبا لهم ممدودًا طويلاً فإنه لا يلبث أن ينقطع ليرجعوا إلى ما كتبه الله عليهم من الذلة والمسكنة والعجز بإذن الله؛ بسبب ما يرتكبون من مظالم ومخازٍ يندى لها جبين الإنسانية.
2- أما الحبل الثاني- للأسف- فهو حبل الضعف والخور والذل والخنوع وزعزعة اليقين والإيمان في نفوس العرب والمسلمين، ثم ما نشأ عنه من ممالأة ومداهنة بعض أنظمة الحكم لهم، بل المعاونة والاشتراك معهم في بعض جرائمهم، بل الأخطر من ذلك تسويق التصور الخاطئ بأن الصهاينة المغتصبين يمكن أن يتم التعايش معهم فعلاً، في الوقت الذي يكشف لنا القرآن العظيم ما يؤكده الواقع المشاهد- فضلاً عن التاريخ البعيد والقريب- عن طبيعتهم وحقيقة مشاعرهم تجاهنا ﴿هَاأَنْتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمْ الأَنَامِلَ مِنْ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)﴾ (آل عمران).
فضلاً عن دأبهم في تبادل الأدوار في نقض العهود ﴿أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (100)﴾ (البقرة)، ولكن بعض العرب لا يتعظون ولا يتعلمون ولا يعقلون.
الكيان الصهيوني إلى زوال
إن هذا العلو الصهيوني مؤقت، وهو استثناء من القاعدة، ولو تُركوا لأنفسهم دون حبل من الناس لعادوا إلى طبيعتهم من الذلة والمسكنة, والضعف والعجز، فهم لم يظهروا على أمتنا بقوة ذاتية فيهم، بل ما انتصروا إلا بضعفنا وخورنا، وقد قيل: إذا وضعت يدك على جدار متصدع فسقط فليس ذلك دليلاً على قوة اليد، بل هو من تصدع الجدار.
لقد كشف القرآن عن جُبنهم في وضوح فاضح ﴿لأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنْ اللهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (13) لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلاَّ فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى﴾ (الحشر).
وكلما أتيح للمجاهدين من أبناء الأمة أن يدخلوا حربًا حقيقيةً معهم لم يثبتوا أمام جنود الحق ﴿لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمْ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (111)﴾ (آل عمران)، وما فعله ويفعله أحفاد البنا والقسّام وأبناء ياسين والرنتيسي وكل قوى المعارضة الأطهار الأبرار مع العدو الصهيوني من أقوى البراهين المعاصرة على نهاية هذا العلو، وتعرية المزاعم بقوة الكيان الصهيوني التي لا تُقهر!.
الطريق إلى إنقاذ القدس وفلسطين
لا شك أن صبحَ النصر قريبٌ، وساعة الخلاص من هذا الجسد الغريب المغروس ظلمًا في قلب أمتنا آتيةٌ لا ريب فيها، بعد أن بدأت الأمة تستعيد وعيها، وصارت جماهير الأمة في كلِّ مكان قادرةً على تمييز الطيب من الخبيث، ولن يكون من السهل على الأنظمة المتخاذلة أن تستمر كثيرًا في تضليل الجماهير، بعد أن انكشف في جنوب لبنان وغزة أن النمر الصهيوني هو نمر من ورق، لكن علينا:
1- البدء بعملية التغيير في نفوسنا أولاً, ببناء إنسان العقيدة المسلم, الذي يُحقق العبودية لله تعالى في نفسه، ويثق بوعد الله، فترتبط الأمة بالله تعالى ارتباطًا إيمانيًّا قويًّا ثابتًا، تستمدّ من قوته قوةً تزيل ضعفها، ومن عزَّته عزةً تَذهب بذلَّتها، ومن إرادته إرادةً تقوِّي بها عزيمتها وتتغلَّب بها على عجزها، وتواجه الطابور الخامس من المثبطين والمخذلين، وبهذا الأساس الصلب يستطيع جيل النصر إنقاذ بيت المقدس, وذلك هو الوصف الذي وصف به النبي صلى الله عليه وسلم جيل النصر حين قال: "لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقَاتِلَ الْمُسْلِمُونَ الْيَهُودَ، فَيَقْتُلُهُمُ الْمُسْلِمُونَ حَتَّى يَخْتَبِئَ الْيَهُودِيُّ مِنْ وَرَاءِ الْحَجَرِ وَالشَّجَرِ، فَيَقُولُ الْحَجَرُ أَوِ الشَّجَرُ: يَا مُسْلِمُ، يَا عَبْدَ اللَّهِ، هَذَا يَهُودِيٌّ خَلْفِي فَتَعَالَ فَاقْتُلْهُ" (مسلم).
يا مسلم.. يا عبد الله.. فلا يحقق وعدَ الله إلا مسلمٌ استحق وصف العبودية الخالصة لله، وسبيل ذلك: التربية المتوازنة على العقيدة الصافية التي لا تكدرها شائبة, وعلى الإسلام الشامل، دون تجزئة, أو نسيان حظ مما ذُكِّرْنا به.
2- السعي الدءوب لوحدة الأمة على كلمة سواء ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا﴾ (آل عمران: من الآية 103)، وقد أثبت الإسلام صلاحيته لتوحيد شعوب مترامية المسكن, مختلفة الأجناس, صَهَرَهم في بوتقة واحدة, وأبدع بهم حضارة أسعدت الشرق والغرب، ونشرت الخير في الدنيا، وحفظت الحقوق العربية والإسلامية.
ولنا في تاريخنا الوسيط العبرة والدرس عندما قام صلاح الدين الأيوبي بتحرير القدس وتطهير البلاد من الوجود الصليبي الذي استمر نحو مائتي سنة.
3- دعم ما يقوم به شباب الجهاد في فلسطين من عمليات فدائية، أفزعت الصهاينة، وأقضّت مضاجعهم، حتى أبلغت قلوبهم حناجرهم، وها هم الصهاينة في تراجع، والحق في تقدُّم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ، على عَدُوِّهِمْ قَاهِرِينَ، لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ وَلا مَنْ نَاوَأهُم" (لا يضرهم أن إخوانهم يخذلونهم، والدول القريبة منهم تخذلهم، بل تقف ضدهم وتناوئهم)، وهذه بشارة للمجاهدين في أرض الرباط "حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ" قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ وَأَيْنَ هُمْ؟ قَالَ: "بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَأَكْنَافِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ" (أحمد)، إن دعم أهل القدس بالمال والعتاد وكل صور الدعم واجبٌ مقدسٌ، وليس بالتطبيع مع العدو الصهيوني والسعي إلى ممالأته.
4- السعي إلى كسب رأي عام عالمي شعبي لصالح القضية الفلسطينية، عَبْر شرح أبعاد القضية لشعوب العالم، والعمل مع كافة منظَّمات المجتمع المدني في سائر الدول، والعمل على بناء قاعدة إعلامية قادرة على مواجهة الإعلام الصهيوني المضاد، وهو أمر صار يؤتي أُكُله، وفي هذا الصدد فإننا نحيي الأحرار في أوروبا وفي العالم الذين يقودون حملات شريان الحياة، ويصرُّون على الوصول إلى غزة هاشم، وإعلان الوقوف إلى جوار الفلسطينيين أصحاب الحق.
إن التضحيات العزيزة والدماء الزكية الطاهرة التي قدَّمها شباب فلسطين هي ضريبة النصر القريب بإذن الله ﴿فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51)﴾ (الإسراء).
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين...
والله أكبر ولله الحمد.
أضف تعليقك