تابعه الملايين، انتظروه بشغف وحماس كبيرين، لم يكن أبدا مجرد حوار، بل تحقيق وثائقي، يُبث لأول مرة على شاشة أمريكية شهيرة، وببرنامج إخباري يعد الأعلى مشاهدة، والأطول عمرا بتاريخ البرامج الإخبارية التليفزيونية.
خمسون عاما من النجاحات، دقائق عرض شيقة، ولقاءات سجلها التاريخ، حوار مع الجنرال "عبد الفتاح السيسي" ندم عليه، وطلب عدم إذاعته، وأصرت القناة على عرضه، كشف الكثير من جرائم طاغية مصر، شمل اعترافات بلسانه، ومشهدُ بدا فيه -كما وصفه كثيرون- بشكل مخز ومهين، الرجل الذي امتلك حكم البلاد بإعلام ودبابة ، لم يكن يتصور أبدا ، أن أول سكين حقيقي ستنشُب فيه ، سيغرسها الإعلام!
شاحب الوجه
بائسا، متلعثما، شاحب الوجه، زائغ العينين، غارقا في عرق ودماء وأكاذيب، هكذا ظهر السيسي أمام الجميع.
تعرى تماما، حين خلع عنه غطاءه من جيش وسلاح وإعلام مزيف، ووافق على الذهاب طواعية إلى استوديوهات الفضائية الأمريكية (سي بي إس)، وأجرى لقاء لن ينسى، مع المذيع المتميز "سكوت بيلي" في واحدة من حلقات برنامجه الشهير "ستون دقيقة"
البرنامج الذي استدرج السيسي واستغل حبه المرضي للظهور، فقدمه لأمريكا وأوربا بحقيقته التي يعلمها جيدا العرب والمصريون، تمت مواجهته بأسئلة لم يتعرض لها من قبل، ولم يسمح بها السيسي منذ انقلابه في 2013 وإلى اليوم،
-لماذا تعتقل أكثر من ستين ألف معتقل بالسجون؟!
-لماذا تقمع المعارضة الرئيسية لك من أفراد "جماعة الإخوان المسلمين"؟!
-لماذا فشلت الدولة المصرية في القضاء على قرابة ألف إرهابي في سيناء على مدار خمس سنوات؟!
-من الذي أصدر الأمر بمذبحة رابعة، وقتل ما يزيد عن ثمانمائة من المصريين؟!
الكذب
لم يكتف بذلك وحسب، بل قدم البرنامج الدليل على كذب السيسي في رده، الذي زعم فيه وجود الآلاف من المسلحين بين المعتصمين، حيث عرض جزءا من لقاء مصور لوزير داخليته الأسبق "محمد إبراهيم"، يؤكد فيه عثور الأمن على عدد (12 بندقية لا غير) بداخل الاعتصام.
دقائق قليلة، بدا فيها السيسي متورطا باعترافات مخجلة وكم ضخم من الأكاذيب، صاحبها لقاءات مع ثلاثة آخرين، كشفوا كذبه وزيف حديثه أمام المتابعين.
أحد هذه اللقاءات كان مع واحد من ضحاياه من المعتقلين السابقين، الصحفي والناشط الحقوقي "محمد سلطان" المواطن الأمريكي من أصل مصري، والذي أصيب في مذبحة رابعة وقام بأطول إضراب عن الطعام من داخل سجنه، وقد أفرد له البرنامج مساحة من الحوار، كشف فيها عما تعرض له من تعذيب بدني ونفسي، تضمن محاولات ضباط بسجون السيسي، دفعه للانتحار.
ولقاء ثان مع عضو برلماني سابق في جماعة الإخوان المسلمين هو السيد "عبد المجيد الدرديري" الذي وصف السيسي بالكذاب والخائن لرئيسه، واتهمه باختطاف التجربة الديمقراطية.
ولقاء ثالث، مع المسؤول الأمني بحكومة أوباما "أندرو ميلر" الذي تحدث أفضل من كافة معارضي السيسي داخل البلاد وخارجها، واصفا نظام الأخير بكونه الأشد قمعا في تاريخ مصر الحديث، مستشهدا بأحكام الإعدام الجماعية، واعتقالات للكافة، بدءا من شباب الإسلاميين، إلى المعارضة العلمانية، وانتهاء بالشعراء والفنانين والمدونين، وحتى من ليس له علاقة بالسياسة!
وحينما سُئل "ميلر" عن السبب، أجاب: لأنه عسكري، لا يفهم سوى طاعة الأوامر، ويعتبر أن أي معارضة، هي تهديد له، وخطر على أهدافه.
كما نسف تماما أكذوبة السيسي التي يروجها عن كونه حارسا على أمن مصر، ومحققا لاستقرارها، معتبرا نظامه العامل الأول والأسرع لانفجار الأوضاع، ومتهما إياه بأنه المتسبب في انهيار الاقتصاد المصري وتدهور معيشة المصريين، وسوء الأوضاع في سيناء.
لا يعترفون بك رئيساً
واجه مذيع البرنامج السيسي بالحقيقة التي تغيب تماما عن إعلامه بنوعيه (الحكومي والخاص)، حين قال له: لقد تحدثت مع عدد من مواطنيك الذين لا يعترفون بك رئيسا، وهو ما لم يستطع السيسي الرد عليه سوى بضحكات مفتعلة.
ثم أوغل المذيع في إحراجه، بالحديث عن اتهامات منتقديه في الكونغرس والأمم المتحدة، بكونه ديكتاتور، يديه ملطختان بالدماء.
وواصل البرنامج كشفه لانتهاكات السيسي، واستعرض سجنه لأهم منافسيه في الانتخابات الرئاسية، ثم ادعاءه النجاح فيها بنسبة مئوية تتجاوز سبعة وتسعين!
وسخر من اشتراكه مع العاهل السعودي سلمان والرئيس الأمريكي ترمب في تدشين مركزا لمحاربة التطرف، بينما توجه الاتهامات لضباط سعوديين في جريمة قتل الصحفي جمال خاشقحي، وتتهم الحكومة الأمريكية نظام "السيسي" بتعذيب وإخفاء المعارضين!!!
على شكل سلسلة من الأكاذيب، جاءت إجابات السيسي، والتي وصِفتها منظمة "هيومان رايتس ووتش" (بالادعاءات المضحكة)، وذلك ردا على أسئلة لم يطرحها عليه أحد من قبل،
ولم يتخلل كل هذا، غير حقيقة واحدة، تورط في الاعتراف بها، كشفت الكثير عن حقيقة نظامه، وأهم أسباب استمراره إلى الآن، بالإضافة لتقديمها تفسيرا منطقيا للقرارات المفاجئة بإقالة رئيس القناة، عقب ساعات من بث اللقاء!
وهي إجابته عن سؤال بشأن علاقته الأقوى والأعمق بدولة الاحتلال الإسرائيلي، وتنسيقه الأمني معها في سيناء، حيث جاءت بالإيجاب، وهو ما نوه عنه المذيع بكونه الاعتراف الأول من نوعه ..
وقد كشف فيه السيسي عن تعاون بين سلاح الجو المصري والإسرائيلي، وتنسيق في العبور ، مؤكدا باعترافه هذا، ما جاء في تقرير صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية، في أوائل فبراير/ الماضي ، عن تحالف سري بين مصر وإسرائيل، يتيح للأخيرة تنفيذ غارات جوية على محافظة سيناء، نُفذت بالفعل بموجبه أكثر من مئة ضربة جوية تسببت في مقتل الكثيرين ، ووصفته الصحيفة، بالسر المفضوح !
وختم المذيع حواره بسؤال عن جدوى المساعدات الضخمة التي تقدمها أمريكا للنظام المصري سنويا، والتي تقدر بمليار دولار،
ولم ينته البرنامج قبل أن يطرح لمتابعيه الوضع المصري كاملا، بدءا من محاولات برلمان السيسي تعديل الدستور لتمديد فترة حكمه، إلى القمع الذي ينذر بإشعال الثورة المصرية من جديد.
حلقة واحدة من برنامج إعلامي محترف، 13 دقيقة وحسب، فعلت بالسيسي ونظامه الأفاعيل ، وسلطت الاهتمام مجددا على قوة الإعلام وأهميته في معركة المصريين ضد الانقلاب العسكري، وسعيهم لنيل حريتهم وكرامتهم، وبناء أمتهم من جديد.
المقال لشيرين عرفة - صحفية مصرية
أضف تعليقك