بقلم.. وائل قنديل
ارتدى أوباما قبعة بابا نويل، وذهب لتوزيع الهدايا على الأطفال المرضى.. حسنًا، لماذا لا أفعلها هنا، قالها عبد الفتاح السيسي لبطانته، فلمّا كانت المناسبة اليوم العالمي لذوي الاحتياجات الخاصة، جمعوا له أطفالًا وفنانات وفنانين وشيوخ تمثيل وغناء ودعوة، لكي يستعرض، بهم وأمامهم وعليهم، إنسانيته الطاغية، ويتفوق على أوباما.
بالفعل، استحضر السيسي كل طاقاته التمثيلية، وذرف الدموع، المصنوعة بحرفيةٍ عالية، وأتوا بطفلة تصيح "بابا السيسي"، فيرد صاحب القلب الحنون "يا حبيبة قلب بابا السيسي".
يكتمل مشهد بابوية السيسي ببيانٍ مشترك لفنانة عجوز، وأخرى شابة يعلن: حنية السيسي غير مصطنعة.
قبل أن يفجر السيسي ينابيع حنانه في احتفاليةٍ صاخبةٍ في ابتذالها، كان قد ألقى القبض على أسرة كاملة، وأخفاها من مطار القاهرة، وهي في طريقها إلى العمرة، وكان الطفل الصغير، ابن النائب المختطف لدي السلطة، مصطفى النجار، يصرخ: أريد أبي، وكان الصحافي هشام جعفر يصرخ من زنزانته التي قضى فيها أكثر من ثلاث سنوات، حبسًا احتياطيًا من دون محاكمة: "هل مطلوب أن يكون الثمن الذي الذي أدفعه لإجراء عملية جراحية لاستئصال البروستاتا هو إعلان انضمامي لداعش، ومبايعه البغدادي؟ فعلا ما يبدو أن هذا هو الهدف النهائي من عملية التعذيب الممنهج الذي أتعرّض له على مدار ثلاث سنوات".
وفيما كان "بطريرك الحنية" يبكي مستعرضًا، كان الإعلان عن مقتلةٍ نفذتها قواته، وحصدت بها أرواح 14 مواطنًا في سيناء، انضموا إلى ثمانية سبقوهم قبل ساعات، من أجل صناعة مشهد "بابا الإنسانية عبدالفتاح السيسي" الذي يفوق في حنّيته الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما.
المشكلة هنا أن أوباما لم يقتل أحدًا، ولم يحرم أطفالًا أصحاء من آبائهم، قبل أن يذهب بالهدايا إلى أطفال آخرين من المرضى، حتى تكون المنافسة عادلة مع السيسي على لقب "صاحب القلب الكبير".
في حفله المبتذل، لا يفوّت السيسي الفرصة، لكي يسند لنفسه أدوارًا إلهية، يمسك فيها بمفاتيح الجنة والنار، فيدخل وزير الأوقاف الجنة مقابل عشرين مليون جنيه، وإنْ كان يتمنى أن يدفع أكثر، حتى يبوئه موقعًا مميزًا في الجنة، ليحضر هنا على الفور عبد الرحمن الكواكبي، بمقولته الشهيرة "ما من مستبد سياسي إلا ويتخذ لنفسه صفةً قدسيةً يشارك بها الله".
على أن حفل الرئيس الحنون لم يكن تعبيرًا عن فورة مشاعر مفاجئة تجاه أصحاب الاحتياجات الخاصة، بل كان بالأساس احتفاءً بإسناده للقضاء (العادل المستقل) مهمة تغيير الدستور، لكي يبقى في الحكم مدى الحياة، دكتاتورًا مستنيرًا، ومستبدًا عادلًا، حسب النغمة الجديدة في وسائل إعلامه.
من المهم هنا أن نقلب في صفحات تاريخ الطغاة والمستبدين، لنجد جذر الموضوع، مع أستاذ الفلسفة، إمام عبد الفتاح إمام، في كتابه "الطاغية" على إيقاع نداء الصغيرة، ذات الاحتياجات الخاصة، على "بابا السيسي".
هنا تقفز من اللغة الرومانية كلمة المستبد "Despotes" بمعنى رب الأسرة، والتي خرجت من النطاق الأسري إلى عالم السياسة، لكي تطلق على نمط من أنماط الحكم المطلق، تكون فيه سلطة الملك على رعاياه ممثلةً لسلطة الأب على أبنائه في الأسرة، أو السيد على عبيده.
ويؤدي هذا الخلط، في الحال، إلى الاستبداد. ولهذا يستخدمه الحكام في الشرق للضحك على السّذج، فالحاكم أب للجميع، وهو كبير العائلة، ومن ثم لا يجوز أخلاقيا معارضته.
هنا، أيضًا، نكتشف أن السيسي أحدث ثقبًا هائلًا في قاع الدكتاتورية، هبط من خلاله بتعريف الدكتاتور إلى ما هو أبعد من الحالة الرومانية قبل الميلاد بقرون، إذ بدأ هذا النمط أول ما بدأ على يد أشراف الرومان، حين كانوا يزكّون شخصا في أوقات الحروب والأزمات مدة لا تزيد عن ستة أشهر أو سنة على أكثر تقدير، حتى تنتهي الأزمة، مع الأخذ في الاعتبار أن ذلك كان إجراء دستوريا، وإن كان يؤدي إلى وقف العمل بالدستور مؤقتا.
في ذلك، لم يستمر الدكتاتور الروماني سنسناتس في العام 465 قبل الميلاد، في موقعه إلا 16 يومًا، أنهى خلالها المهمة المكلف بها وتقاعد، فيما كان الاستثناءان الوحيدان، في موضوع الدكتاتورية المؤقتة، مع الدكتاتور سلا الذي عين عام 82 قبل الميلاد مدة غير محدودة، وظل في موقعه ثلاث سنوات.
أما الثاني فكان يوليوس قيصر الذي اتخذ لنفسه سلطات دكتاتورية عشر سنوات عام 46 قبل الميلاد، ثم أعطيت له هذه السلطات مدى الحياة، لكن تم اغتياله قبل أن يتمتع بها.
وإذا كان العالم المتحضر قد اعتبر الدكتاتورية مرضًا، بالنسبة لنظام الحكم، كما ذهب الفقيه الفرنسي المعاصر، موريس دوفرجيه، فإن هناك من يفضلها في بلادنا السعيدة، مرضًا مزمنًا، كما الحال مع عمر البشير في السودان، والسيسي في مصر، وبشار الأسد في سورية، بل ويكتبون فيها الأشعار.
أضف تعليقك