بقلم: وائل قنديل
ستدخل النظرية السيسية في الحكم التاريخ تحت عنوان "استبداد العبط"، أو بالأحرى "عبط الاستبداد"، إذ لا يعترف الجنرال الحاكم بالقواعد المؤسسة لقيام الدولة وإدارتها، بل إنه لا يعترف بوجود الدولة من الأصل، على الرغم من أن خطابه في تسويغ الانهيار الحاصل على يديه يعتمد على عبارة واحدة، يرعب بها المصريين، تقول: استمتعوا بالاستبداد والفقر والحرمان، كي أبني لكم دولة، أو أعفيها من التفكك.
على المستوى النظري، يطرح السيسي نفسه مبعوث العناية الإلهية لإنشاء دولة اسمها مصر، على اعتبار أن مصر قبله كانت عدمًا، ومن غير وجوده في السلطة لن تكون موجودة على خريطة العالم.
لكن على مستوى الممارسة والأسلوب الإداري، يؤكد السيسي كل يوم إنه ليس ثمّة دولة، بالمفهوم العلمي، بل ساحة مفتوحة يرتع فيها، مديرًا ظهره للعلم وللمنطق، ويعبر عن ذلك بشكل سافر حين يسخر من اصطلاح "دراسة الجدوى"، كونه يعيق خططه ومشروعاته، وما دام قد سبق ذلك إعلانه أنه من صنف الأنبياء الذين يتلقون "العلم اللدني"، واضعًا نفسه في مكان ومكانة النبي سليمان "ففهمناها سليمان"، فلا حاجة إذن لحكومة ومراكز أبحاث ومعاهد تخطيط، إذ يصبح ذلك كله، من وجهة نظره، عبثًا لا لزوم له، ولا جدوى منه.
منذ اللحظة الأولى لصعوده إلى الحكم، يميت عبد الفتاح السيسي العلم، ويحيي الخرافة والشعوذة، وينحي التفكير جانبًا، ويعتمد "الفهلوة" أسلوبًا وحيدًا، ولم يكن من قبيل المصادفات أن يجري تخفيض أجور أساتذة الجامعات في العام 2014 في مقابل زياداتٍ لا تتوقف في رواتب الضباط والقضاة. وفي خط مواز يتم تدمير الوعي العام بإغراقه في محيط هادر من العلماء والمخترعين المزيفين، من جميع الأعمار، يتحدّثون بلسانٍ سيسيٍّ قح عن اكتشافاتٍ على الطريقة السيسية في مجالات الطب والهندسة النووية والصناعة والزراعة والري والفضاء.
في تلك الأثناء، خرج رئيس جامعة القاهرة، جابر نصار، ليبرّر مذبحة المعتصمين في ميدان نهضة مصر، الواقع أمام الجامعة، بالقول "كان مقصوداً من الاعتصام تخريب العقل الهندسى لمصر، من خلال الاعتصام، لأن المركز فى كلية الهندسة يضم بحوثا ودراسات عن التربة والإسكان وحالة مصر السكنية منذ عام 1805".
الآن، يقول السيسي إنه لا حاجة للعقل، هندسيًا كان أم سياسيًا، ومن ثم ينقلب مفهوم العلاقة بين الدولة (التي هي شخص السيسي) والشعب عنده، ففي كل المجتمعات البشرية توافق العالم على أن الحاكم، أي حاكم، هو خادم لشعبه، إلا في الحالة المصرية، حيث يصرخ الواقع إن السيسي يريد الشعب والدولة في خدمة الحاكم، وعلى المصريين أن يكدحوا ويشقوا، ولا يسألوا عن حقوق سياسية أو اجتماعية، كي يبقى الحاكم في السلطة، يلهو بمؤتمراته وجولاته السياحية والرياضية، ويحتكر الفتوى في الدين، والعلم والإدارة والبطاطس أيضًا.
من هنا، يمكن فهم اللوثة التي أصابت نظام السيسي، وهو يشاهد الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، ينحني أمام الإرادة الشعبية، ويعتذر لذوي السترات الصفراء، ويستجيب لمطالبهم بإلغاء ضرائب الوقود، وزيادة الأجور، والدخول في إصلاحاتٍ اقتصادية، تلبي حاجة الجماهير، ذلك أن معنى الجمهور، والجمهورية، مختلفٌ بالكلية لدي السيسي وحاشيته، إذ يؤمنون بالعكس تمامًا، بحيث تكون الجماهير، طوال الوقت، خادمة لأوهام الحاكم وأحلامه وخرافاته الخاصة بأصول الحكم والإدارة.
تنبع أهمية الدرس الفرنسي الجديد من أنه ينسف تمامًا نظرية عبد الفتاح السيسي في الحكم، ويثبت أن من الممكن أن تبقى الدولة على قيد الحياة، بل وتتقدّم إلى الأفضل، مع وجود الفعل الجماهيري الغاضب، إلى درجة العنف أحيانًا، وأن فرنسا لم تختف من خريطة أوروبا نتيجة الانتفاضة الشعبية، وأن مفهوم الدولة، في النهاية، ينطلق من أنها ذلك الكيان الاعتباري الذي تصنعه الشعوب، بإرادتها الحرة واختيارها الكامل، ليكون في خدمتها، على النحو الذي يلبي مطالب الجماهير، التي هي، أو هكذا ينبغي، أن تكون الوظيفة الأساسية للحاكم.
باختصار شديد، تطيح التجربة الفرنسية نظرية: إما الدولة أو البطاطس، وتؤكد أنه من الممكن أن تكون هناك دولة قوية وشعب يأكل البطاطس والكرواسون، ويحصل على الخدمات كاملة بالثمن الذي يناسبه، من دون أن يكون في ذلك تهديد وجودي للوطن.
أضف تعليقك