بقلم: وائل قنديل
فاجأ الداعية المصري، الشيخ محمد جبريل، متابعيه ببيان، يعلن فيه أنه يحب مصر بما يعادل ملايين من الجنيهات.. وأنه يدعو المصريين أن يفعلوا مثله، ويذهبوا إلى صندوق حب مصر ليضعوا فيه أموالهم، والحصول على إيصال بدفع مقدم ثمن هذا الحب.
إذن، وعلى حين غرة، اكتشف الشيخ محمد جبريل، الاسم ذائع الصيت في عالم تلاوة القرآن الكريم، أن قلبه اكتوى بحب مصر، وأن هذا الحب لا يكون صحيحًا وحقيقيًا إلا بإيداع بضعة ملايين من الجنيهات، والعودة إليها بسند الدفع كي تصدق أنه يحبها.
فعلها إمام مسجد عمرو بن العاص الشهير، بعد ثلاثة أعوام من الرحيل الإجباري، عقوبة الدعاء على الظالمين، وعاد إلى من أسماها “حبّة القلب مصر الغالية”، ليبثها غزلًا ركيكًا، بعيدًا كل البعد عن مفردات داعيةٍ وقور، فيكتب “فإنه معلوم لِذِي كلّ عين بصيرة بأنني أحب بلدى حبًّا جمًّا، وأنتمى إليها قلبًا وقالبًا وأفديها بدمى وروحى، وأحب من يحبها وأعادي من يعاديها. وبناءً عليه، فإننى أعلن عن تبرّعي بمبلغ ( ) لبلدي مصر”.
لا أحد يشكّك في حب الشيخ مصر، لكن ما يسترعي الانتباه أنّ حب الوطن انتقل من قصائد الشعراء ونصوص الروائيين، إلى أوراق البنكنوت والعملة الصعبة، ليصبح التعبير عن هذا الحب غوصًا في وحل الابتذال، ابتذال الحب، وابتذال الوطن، والأخير هو الخسارة الأفدح، إذ يتحوّل الوطن، وفقًا لهذا المفهوم الجديد للحب، إلى نقطة تفتيشٍ يقف عندها قطاع طرق يستوقفون المارّة، ويخرجون ما في جيوبهم، تحت تهديد السلاح، ثم يأمرونهم بالهتاف “تحيا مصر” والإعلان عن حبهم الوطن، من خلال وضع قسم من أموالهم في جيوب حكامه.
ما يعلمه الجميع أنّ الشيخ جبريل خرج من مصر، مرغمًا، بعد دعاءٍ على الظالمين في إحدى ليالي القيام بشهر رمضان منذ ثلاث سنوات، فتم ضبطه وإحضاره والتحقيق معه، ليخرج بعد انتهاء التحقيق، قبل أن يعود فجأًة منذ أكثر من شهر، ليتم استيقافه في مطار القاهرة الدولي، ومصادرة جواز سفره، على أن يذهب لاستلامه من أحد مقرّات الأمن، بعد أيام.
مرت الأيام، تلو الأيام، ليفاجئ الشيخ متابعيه ببيانٍ على صفحته على موقع فيسبوك، يعلن فيه أنه يحب مصر بما يعادل بضعة ملايين من الجنيهات.. وأنه يدعو المصريين إلى أن يفعلوا مثله، ويذهبوا إلى صندوق حب مصر ليضعوا فيه أموالهم، والحصول على إيصالٍ بدفع مقدم ثمن هذا الحب، والعودة به إلى الإدارة العامة لتحصيل المشاعر الوطنية.
لا يقتصر الأمر على الشيخ جبريل فقط، إذ فرض خاطفو الوطن على من يريد البقاء على قيد الحياة فيه أن يردّد أناشيد الولاء الإجباري، يستوي في ذلك من يمتلك القدرة على دفع شيكات المحبة، أو من يستعيض عنها بالهجوم الصفيق على من يعارضون مجموعة القراصنة التي تختطف الوطن، وتحوله إلى مكان للجباية.
هؤلاء يستحقّون الشفقة والأسى، ذلك أنهم لا حول لهم ولا قوة أمام هذا البطش المجنون، غير أنه، تقول التجربة إنّ هذا الحب المرتعش لا يصلح عاصمًا من مزيد من البطش.
ويبقى الأقسى من هذا الحب الإجباري التعبير عن هذا الحب باللغة التي يمليها الواقفون على بوابات الوطن، فتخرج الكلمات منقوعةً في الإسفاف، على نحو يذكّر بألوان الماكياج الفاقعة على وجه فتياتٍ يبعن الحب بالإكراه، لكنهن مرغماتٌ على الظهور بحالة اشتعال العاطفة الصادقة، ورسم الابتسامة على وجوهٍ أنهكتها الأصباغ.
أضف تعليقك