بقلم.. عامر شماخ
عاد صديقى المحبط يلقى علىَّ أسئلته التى تشبهه، فقال: هل يظل المعتقلون على هذا الحال من الحبس والهوان وقد نسيهم الجميع بعدما طفت قضايا مثيرة على السطح؟ لماذا لا تكون هناك حلول لتحريرهم؟ ولماذا الإصرار على مواجهة العسكر؟ ولماذا لا تقدم التنازلات لإعادة الابن لوالدته والزوج لزوجته؟ وأضاف: لا شك أن من يتصدرون القيادة يتحملون مسئولية بقاء هؤلاء الأفاضل فى السجون. واستطرد: لا بد من عمل شىء لعودتهم إلى عائلاتهم ومجتمعهم..
قلت: جزء من كلامك مضبوط يا صديقى، وبقيته بها تناقض وخلل، فأنا معك أنه لا بد من بذل الجهد لتحرير هؤلاء الإخوة واستفراغ الطاقة لعودتهم لذويهم الذين -من دون شك- اكتووا بغيابهم، وأوافقك أن هناك تقصيرًا فى هذه القضية؛ إذ كان بالإمكان تصدير قضيتهم للمجتمع وللخارج بصورة أفضل من الصورة الحالية، خصوصًا أن أدلة عديدة موثقة تبرئهم من التهم الملفقة الموجهة إليهم، وأن فساد مؤسسات النظام العسكرى التى تحاكمهم واضح للعيان.. لكن لنكن موضوعيين أيها العزيز؛ فحتى لو تم هذا فلا تتوقع أن تنتهى القضية ويخرج الناس زرافات ووحدانًا..
القضية يا صديقى أكبر مما تتخيل، والأخذ بالأسباب وحدها ليس كافيًا كما تظن، وهؤلاء المعتقلون يا أخى ليسوا أنصار حزب سياسى أو جماعة معارضة، إنهم ورثة النبوة، ورموز الإسلام الحنيف، وأولئك يعاديهم الشرق والغرب، والشمال والجنوب، ويجتمع عليهم المنافقون والصليبيون والصهاينة والبوذيون والهندوس وجميع ملل الشرك والكفر، فكيف تتوقع أن يتم إخلاؤهم بدون تضحيات، ولك أن تراجع معى عدد الدول والمنظمات والهيئات والجماعات التى ناصرت -ولا تزال- العسكر، وتغض الطرف عما يقع على هؤلاء الفضلاء وذويهم من مشقة وعنت، وقد ضرب أحد الإخوة مثلا فقال -أكرمه الله-: ماذا سيحدث لو أن امرأة قبطية وقفت تنتظر رؤية زوجها (القبطى) بالساعات -وتحت التهديد والترويع- أمام سجن العقرب؟ الأخ يطرح قضية افتراضية، لن تحدث، لكنه ضرب المثل بآلاف المسلمين المسجونين ظلمًا ومئات المسلمات اللاتى ينتظرن رؤية أزواجهن -وهى أقل حقوق ذوى المسجون- فيتعذبن لذلك. أين منظمات حقوق المرأة، والإنسان، والمواطن؟ أين العالم الغربى المتواطئ؟ إلا أن يكون شريكًا فى الجريمة متسترًا على المجرمين..
إن من يلّحون على طلب العون من البشر وحدهم، وتقديم التنازلات، وإخراج المعتقلين (بأى ثمن) ولو بالانبطاح لتلك الأنظمة المجرمة -هؤلاء وأولئك لم يستوعبوا الدرس بعد، ولم يعرفوا مآلات أن تكون مسلمًا حقًا، ويظنونها مبارزة سياسية بين (وفدى) و(ناصرى)، إطلاقًا فتلك طريق نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد، أولى العزم من الرسل، وقد لحقهم وحوارييهم من الأذى والعنت ما تحدث عنه القرآن بحديث تقشعر منه الأبدان، ومع ذلك لم يذهبوا مغاضبين ظانين أن الله لا يسمع سرهم ونجواهم، بل كان لسان حالهم يقول: «رب إنى مغلوب فانتصر»، فالله ولى الذين آمنوا، وهو معهم ولن يترهم أعمالهم، ولو تخلت الدنيا كلها عنهم فلن يتخلى هو عنهم، وهو لا يرضى لهم العنت والعذاب بسجنهم، إنما -والله- يريد لهم الحفظ، والعون، والتربية، والصبر، والعفو، ويريد لهم أن يكونوا أعزة، أئمة وأن يكونوا ممن اصطفاهم لخدمة لدينه، فهم فى موقف لو أطالوا الليل قائمين والنهار صائمين ما وصلوا إليه.
المواجهة إذًا لا يستطيعها البشر وحدهم؛ لأنك أمام قوة دولية مجرمة ولست أمام نظام محلى، هذا النظام مجرد منفذ بثمن بخس. وهذا لا يعنى أن ننام أو نسهو عن القضية، بالعكس فإنا مؤاخذون إن لم نتحرك لحلها، أو كما قال الرجل الصالح: «أنتم ستار للقدرة وتأخذون الأجرة» لكن لا نفزع، ولا نجزع إن طال المدى، ولعل مشهد العتاب من النبى -صلى الله عليه وسلم- لسيدنا خباب بن الأرت يكون لنا عبرة؛ فهو يلخص هذه المواجهة؛ أنه ما أوتى أحد بمثل ما جاء به هؤلاء إلا أوذى، وأنه لا بد من الاحتمال وعدم العجلة، وأن الأمور بيد الله يصرفها كيف يشاء، وأن العاقبة -لا شك- للمتقين.
أما أن المجتمع قد تتالت قضاياه، وأن الأنظمة تلهى الشعوب فلا يكون لهؤلاء ذكر؛ فإنى أسوق لك يا صديقى مثلين -وهناك عشرات الأمثلة- للتدليل على أن تلك القضايا لا تنمحى من ذاكرة الشعوب مهما حاولوا التشويش عليها؛ فإن الإخوان لما سُجنوا فى (1954) وجرى لهم ما تعلم؛ ظنوا أن الجماعة قد انتهت من مصر، بل ظنوا أن الإسلام نفسه قد صار محصورًا فيهم ولم يعد هناك موحد واحد فى فضاء المحروسة؛ لما كانوا يسمعونه من الحراس، ولما كان يأتيهم من أخبار الخارج وقد انتشر الفسق وانتفش الإلحاد وعمت الرذيلة، قالوا: حتى دخل علينا أبناء تنظيم (1965) وقد أودع المعتقلات فى ليلة واحدة (18000) من الإخوان وارتفع العدد بعدها إلى نحو (40000) بينهم 450 أختًا!! كيف بقى هؤلاء فى دولة (الهالك) رغم سيفه الدموى وإعلامه الإلحادى ورجاله المجرمين، هذا أمر الله. المثل الثانى حكاه لى أحد المحكوم عليهم بالإعدام الآن -وكان مسئولا كبيرا فى برلمان 2012- وأنه تعرف على الإخوان وصار واحدًا منهم بسبب زميل له بكلية الهندسة كان يعانى مرضًا عصبيًا، علم أنه لازمه من ليلة القبض على أبيه، فبحث عن الإخوان ودرس منهجهم، وتعلم القرآن والدين..
وهكذا يا صديقى فإن بقاء 60 ألف معتقل فى السجون سوف يحيى شعوبًا بكاملها؛ ليعلم الناس أنه ما زال فى أمة محمد من يضحى لأجلها، ويسلك مسلك نبيها، وأنهم لا يزالون ثابتين مرابطين قائمين على الحق لا يضرهم من خذلهم.
أضف تعليقك