رسالة من الأستاذ محمد مهدي عاكف المرشد العام للإخوان المسلمين
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد..
واصطفى الله عز وجل محمدًا رسولاً ونبيًّا؛ ليختم به النبوَّات والرسالات، وليكون سراجًا للقلوب، ونورًا للأرواح..(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا* وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا) (الأحزاب: 45، 46)، وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم (بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) (التوبة: 128)، فإنه أيضًا رحمةٌ للعالمين (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء: 107)، ولأجل ذلك كان من شعار الجماعة: (الرسول قدوتنا.. الرسول زعيمنا).
لقد آمنا إيمانًا لا جدال فيه ولا شكَّ معه، واعتقدنا عقيدةً أثبت من الرواسي، وأعمق من خفايا الضمائر، بأنه ليس هناك إلا فكرةٌ واحدةٌ، هي التي تنقذ الدنيا المعذَّبة، وترشد الإنسانية الحائرة، وتهدي الناس سواء السبيل، وهي لذلك تستحق أن يُضحَّى في سبيل إعلانها والتبشير بها.. هذه الفكرة هي الإسلام الحنيف؛ الذي لا عِوَج فيه، ولا شرَّ معه، ولا ضلال لمن اتبعه.. (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا) (المائدة: من الآية 3).
موقف الإسلام من الأقليات
يظن الناس أن التمسكَ بالإسلام وجعلَه أساسًا لنظام الحياة، ينافي وجود أقليات غير مسلمة في الأمة المسلمة، وينافي الوحدة بين عناصر الأمة، وهي دعامةٌ قويةٌ من دعائم النهوض في هذا العصر، ولكن الحق غير ذلك تمامًا؛ فإن الإسلام الذي وضعه الحكيم الخبير، الذي يعلم ماضي الأمم وحاضرها ومستقبلها، قد احتاط لتلك العقبة وذلَّلها من قبل، وذلك واضحٌ جليٌّ بأدلةٍ لا تحتمل الشك ولا التأويل، ومنها:
أولاً: حيث إن الله عز وجل قدَّس الوحدة الإنسانية العامة في أصل الخلقة فقال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا) (الحجرات: من الآية 13)، ويؤكد الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك فيقول: "كلكم بنو آدم وآدم خلق من تراب".
ثانيًا: القرآن الكريم اشتمل على نصٍّ صريحٍ بالبرِّ بالأقليات، والإحسان إليها، وتحقيق العدل فيها؛ فقال: (لا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الممتحنة: 8)، وبهذا أكسب الإسلام هذه الوحدة صفةَ القداسة الدينية، بعد أن كانت تستمد قوتها من نصٍّ مدنيٍّ فقط، كما نهى عن ظلمهم أو انتقاص حقٍّ من حقوقهم؛ حيث قال: "ألا من ظلم معاهدًا أو انتقصه أو كلَّفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئًا بغير طيب نفس؛ فأنا حجيجه يوم القيامة"، وقال: "ألا من قتل نفسًا معاهدةً، له ذمة الله وذمة رسوله، فقد أخفر بذمة الله، فلا يرح رائحة الجنة وإن ريحها لتوجد من مسيرة سبعين خريفًا"، وقد اختصم مسلم ويهودي إلى عمر رضي الله عنه، فرأى الحق لليهودي، فقضى له عمر به.
وإلى عهد قريب كان اليهود يعيشون في ربوع الدول الإسلامية والمسيحيون يَحيَون معنا وهم آمنون على أموالهم وبيوتهم ودمائهم وأعراضهم، وتجارتهم رابحة، وأعمالهم غير مصادَرَة، وما يقع الآن إنما هو ثمرةٌ لسوء صنيع الغرب بغرس الصهاينة في أرضنا، فهل من معتبر؟!
ولقبط مصر وأهلها وصية خاصة من الرسول صلى الله عليه وسلم فيقول: "إنكم ستفتحون مصر.. فإذا فتحتموها فأحسنوا إلى أهلها؛ فإن لهم ذمةً ورحمًا"، وقد حكم عمر رضي الله عنه للقبطي بأن يضرب ابن عمرو، وقال: يا عمرو.. متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا!! بل إن الإسلام ليحفظ حرمات بيوتهم ولا يُحلُّ لأحد أن يدخلها إلا بإذن منهم.. يقول رسول الله: ".. إن الله عز وجل لم يحلّ لكم أن تدخلوا بيوت أهل الكتاب إلا بإذن..".
ليت حكام المسلمين وقادة العالم ينصتوا لهذه الوصية، حتى يكفُّوا عن إزعاج الأطفال والشيوخ والنساء بكسر أبواب البيوت، والعبَث بمحتوياتها وسرقة ونهب ما تقع عليه أعينهم، وغدا كلُّ بيت مسلم في كل مكان الآن لا يهنأ بنوم، لا في ليله ولا نهاره من زوَّار الليل والنهار، الذين لا همَّ لهم إلا بثّ الرعب والخوف في قلب كل مواطن.
ثالثًا: لقد حدد الإسلام تحديدًا دقيقًا من يحق لنا أن نناوئهم ونقاطعهم ولا نتصل بهم؛ فقال تعالى بعد الآية السابقة: (إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (الممتحنة: 9)، وليس في الدنيا منصف واحد يرضى أن تقبل أمة من الأمم هذا الصنف دخيلاً فيها وفاسدًا كبيرًا بين أبنائها وناقضًا لنظام شئونها.
موقف الإسلام من الغرب
وأما عن موقف الإسلام من الغرب فيقول الإمام الشهيد:
"قد يقال: إن الجهر بالعودة إلى نظام الإسلام مما يخيف الدول الأجنبية والأمم الغربية، فتتألَّب علينا، وتتجمَّع ضدَّنا، ولا طاقة لنا بهم، ولا قدرة لنا عليهم، وهذا منتهى الوهن وغاية الفساد في التقدير وقصر النظر.. وها نحن أولاء نرى هذه الدول وقد سايرناها في نظُمُها، وأخذنا بألوان حياتها، واتبعناها في تقاليدها، فهل أغنى ذلك عنا شيئًا؟! وهل دفع من كيدها؟ وهل منعها من أن تحتل أرضنا، وتسلب استقلالنا وتستأثر بخيرات بلادنا، ثم تتجمَّع في كل مؤتمر أو مجتمع دولي ضد حقوقنا، وتثير المشكلات والصعاب والعقبات في وجوهنا، ولا تتأثر إلا بشيء واحد؛ هو ظروفها ومصالحها فقط، وها هم أولاء جميعًا يناصرون الصهيونية وهي أبغض ما تكون إليهم؛ لارتباط مصالحهم المادية وأغراضهم الاستعمارية بهذه المناصرة، وقد أصبح هذا المعنى معلومًا في تصرفات كل الساسة الغربيين".
وإذا كان خطباؤها وساستها يصرِّحون ويعلنون بأن كل دولة حرة في النظام الذي تسلكه في داخل أرضها، ما دام لا يمس حقوق الآخرين؛ فعلى ساسة هذه الدول جميعًا أن يفهموا أن شرف الإسلام الدولي هو أقدس شرف عرفه التاريخ، وأن القواعد التي وضعها الإسلام الدولي لصيانة هذا الشرف وحفظه أرسخ القواعد وأثبتها؛ فالإسلام يأمر بالمحافظة على التعهدات وأداء الالتزامات: (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً) (الإسراء: من الآية 34)، ويقول: (فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ) (التوبة: من الآية 7).
أيها الخائفون من الإسلام.. إن موقف الإسلام من الأقليات واضح لا غموض فيه، ولا ظلم معه، وموقفه من الغرب والأجانب موقف سلم ورفق ما استقاموا وأخلصوا، فإن فسدت ضمائرهم، وكثرت جرائمهم، فقد حدَّد القرآن موقفنا منهم بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ) (آل عمران: من الآية 118).. وذلك يكون الإسلام قد عالج هذه النواحي جميعا أدق العلاج وأنجحه وأصفاه.
أَبَعْد هذا التشريع السامي والمبادئ العادلة نوصَف بأننا ندعو إلى فرقة عنصرية، ألا ساء ما يصفون!، ولكننا إلى جانب هذا لا نشتري هذه الوحدة بإيماننا، ولا نساوم في سبيلها على عقيدتنا، ولا نهدر من أجلها مصالح المسلمين، وإنما نشتريها بالحق والإنصاف والعدالة وكفى، ومن حاول غير ذلك أوقفناه عند حده، وأبنَّا له خطأَ ما ذهب إليه ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين.
أيها المسلمون.. أيها الناس أجمعون..
هذه ثوابت في ديننا لا تقبل المساومة، وعقائد نبذل الأموال والمهج والأرواح ولا نتنازل عنها:
1-إن الوطن الإسلامي واحد لا يتجزَّأ، وإن العدوان على جزء من أجزائه عدوان عليه كله.
2- إن الإسلام فرض على المسلمين أن يكونوا أئمةً في ديارهم، سادةً في أوطانهم، وفرض عليهم أن يدعوا غيرهم دونما إكراه للاهتداء بأنوار الإسلام.
3- يعتقد الإخوان المسلمين أن كل أمة تعتدي على أوطان الإسلام دولة ظالمة لا بد أن تكفَّ عن عدوانها، ولا بد من أن يعدَّ المسلمون أنفسهم ويعملوا متساندين على التخلص من نِيرها.
4- فلسطين دولة مسلمة وبها المسجد الأقصى أولى القبلتين وثالث الحرمين، ولا يحق لإنسان، مهما كان شأنه، أن يساوم عليها؛ يهود أو أمريكا، كما لا يحق لأحد أن يمنح شرعيةَ منحِها للصهاينة أو غيرهم، وإذا عجزت الحكومات عن استردادها واستسلمت لضغوط الصهاينة وأمريكا، فإن الشعوب لن تيأس من استردادها وإن طال الزمن، وقديمًا استرد صلاح الدين الأقصى من يد الصليبيين بعد مائة عام، وعاملهم بإحسان، رغم الدماء والفساد الذي ألحقوه بالبلاد والعباد.
أيها الناس أجمعون..
إن رسولنا صلى الله عليه وسلم الرحمة المهداة والنعمة المسداة والسراج المنير، يريد للرحمة أن تعمَّ العالمين، وللعدل أن يسودَ في كل المجتمعات، وللمساواة أن تتحققَ بين كل الطبقات والأجناس والألوان والأديان، وللأمن والأمان أن يرفرف على الجميع.
ويا أيها المسلمون.. إن الله بعث لكم إمامًا، ووضع لكم نظامًا، وفصل أحكامًا، وأنزل كتابًا، وأحلَّ حلالاً، وحرَّم حرامًا، وأرشدكم إلى ما فيه خيرُكم وسعادتُكم، وهداكم سواء السبيل؛ فهلاَّ اتبعتم إمامه، واحترمتم نظامه، وأنفذتم أحكامه، وقدَّستم كتابه، وأحللتم حلاله، وحرَّمتم حرامه؛ حتى يعود لكم عزُّكم وتتحقَّق لكم الحرية والسيادة على أرضكم.. (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ* بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (الروم: من الآيتين 4،5).
وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلّم، والحمد لله رب العالمين.
أضف تعليقك