2- يوم العالم
كان فضل الله على رسوله سيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم- عظيمًا، وكان فضل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على العالمين عظيمًا، ولو كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- نبيًّا لأمة من الأمم لكان على هذه الأمة وحدها أن تجد يوم مولده روعة الذكرى ولذة عرفان الجميل، ولكنه رسول الله إلى الأمم قاطبةً، وبعثته- صلى الله عليه وسلم - شاملةٌ كاملةٌ، فذلك قول الله تبارك وتعالى في سورة سبأ ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا﴾(سبأ: من الآية 28) فهو- صلى الله عليه وسلم- نبي الأمم ورسول الشعوب جميعًا، بل إن رسالته- صلى الله عليه وسلم- شملت من تقدَّمه من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم وأحاطت بمن تأخَّر عنه من الأمم؛ فلقد أخذ الله له العهدَ والميثاقَ على أنبيائِه ورسلِه أن بعث فيهم ليؤمنن به وليكونن من نصرائه، وليؤيدن دعوته، فذلك قول الله تبارك وتعالى في سورة آل عمران ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنْ الشَّاهِدِينَ (81)﴾ فهو- صلى الله عليه وسلم- بذلك نبي المتقدمين والمتأخرين.
ولو كانت بعثته- صلى الله عليه وسلم- وهدايته قاصرةً على المتقدمين والمتأخرين من هذا الجنس البشري لكان هذا الواجب الروحي في عنق بني الإنسان جميعًا، بيد أنه- صلى الله عليه وسلم- مع هذا رسول الله إلى ذلك الجنس اللامادي الذي حكى عنه أنه استمع من رسول الله القرآن فتأدب لسماعه وفهم مرماه وآمن به وبشَّر قومَه، وكان في ذلك خيرًا من كثيرٍ من الأناسيِّ، فذلك قول الله تبارك وتعالى في سورة الأحقاف ﴿وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنْ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِي اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِي اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (32)﴾
أفلا ترى هؤلاء وقد سمعوا الذكر فتأدبوا في حضرته، وتفقهوا في غايته، ثم انطلقوا يدعون قومهم إلى الإيمان بداعي الله والتسليم لرسول الله- صلى الله عليه وسلم-، وينذرونهم أنهم إن لم يفعلوا فلن يُعجِزوا اللَّهَ في الأرض وسينتقم الله منهم، ويكونون في ضلال مبين، وإذن فهذا الواجب الروحي ليس قاصرًا على هذا الجنس البشري؛ بل هو واجبٌ على الثقلين، وقد استضاء كلاهما بنور هدايته وروى من معين رسالته- صلى الله عليه وسلم-.
وليس هو- صلى الله عليه وسلم- خفيَّ المنزلةِ على غيرِ من آمن به من الكائناتِ أو مجهولَ المقام عند غيرِ الثقلين من المخلوقات، بل إن ذكره- صلى الله عليه وسلم- في الملأ الأعلى أشرف وأسنى من ذكره في هذا الملأ الأدنى.
لقد شرفت عوالم الملكوت بزيارته كما شرفت عوالم الملك بإقامته، وفي القرآن شاهدُ ذلك، وفي السنة دليله، واقرأ إن شئت قول الله تبارك وتعالى ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ (53)﴾ (الشورى) مع قوله تعالى ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)﴾ (الإسراء) ولأمر ما قال الحق تبارك وتعالى ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)﴾ (الأنبياء) وإذن فهذا الواجب الروحي واجبٌ على الكون كله, أرضه وسمائه وإنسه وجنه؛ إذ كانت رسالته- صلى الله عليه وسلم- هدى وبركة وخير ويمن ورحمة للعالمين.
ولو كان بعد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- رسول لكان للمقصرين شبه عذرٍ في التراخي عن إحياء هذه الذكريات في نفوسهم، أما ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- خاتم النبيين وآخر المرسلين انتهى الوحي إليه، وخُتِمت النبوةُ برسالته، فذكرياته- صلى الله عليه وسلم- نبراسُ المهتدين ودليلُ السارين انتهت إليها الهداية، ووقف عندها الإرشاد، فلا محيصَ عنها لسواها، ولا معدل إلى غيرها، والله تبارك وتعالى يقول ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ﴾ (الأحزاب من الآية40).
لقد علمنا رسول الله أن نقول الحق للحق وأن تخالط قلوبنا بشاشة الإيمان، وأن ندع الناس حتى يروا من آيات الله ما يحملهم على التسليم والإذعان.
وقد عرفنا من فضل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ما هو فوق مستوى العبارات والألفاظ، وإن قومًا ممن حصروا أنفسهم في حدودِ البحث الضيق، وجمدوا على هذا الحصر فلا يرون منه مخرجًا قد يرون ما نقول تصديرَ كاتبٍ أو عاطفةَ محبٍّ متعالٍ فيمن يحب، فليعلم إخواننا أننا نعني ما نقول، ونعتقد أن ما نكتب حقيقةٌ ماثلةٌ لا خيالاً مفروضًا ولا تصويرًا مبتكرًا، ولو شئنا أن نقول لهم إن ما علمتم من علوم هذا العصر تؤيد ما ذهبنا إليه وتدعم ما أوردناه لقلنا وأفضنا في ذلك، وليس في الأمر مستغربٌ، ولذلك مقام آخر، ولكل مقام مقالٌ، ولم يُطوَ بعد بساطُ البحث، وستظل الأقلام تكتب والألسنة تقول وتتخلل، وعظمة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على ما هي عليه.. سرٌّ محجبٌ وكنزٌ مغيبٌ لم تصل إلى كنهها كتب الكاتبين، ولم تستطع تصويرَ حقيقتِها ألسنةُ القائلين, ولعمر أبيك إنها العظمةُ التي أمدها الله بفيضه وخلع عليها من نعمته وفضله، وامتنَّ على صاحبها بقوله ﴿ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)﴾ (النساء) تقصر دونها عظمةُ العظماء وتنحسرُ أمامها مراتب الملوك والأمراء.
رتب تسقط الأماني حسرى دونها ما وراءهن وراء
فأني للقلم أن يحيط بفيض لا ينتهي مدده وأني للقول أن يلم بمدى لا يدرك أمده وأنَّي للعقول أن تتطاول إلى إدراكِ معنى جعله الله أسمى من متناول العقول والأفهام وأنَّى للزمن أن ينالَ من خلود أراد الحق أن يكون أبقى من السنين والأعوام.
أيها المسلمون: اذكروا عظمةَ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في يوم مولده وفي كل وقت واستمدوا من هذه الذكرى روح العظمة الصحيحة والعزة القويمة، واذكروا أنكم خير أمة توصفون، وإلى أفضل نبي تنتسبون فلا تستنيموا إلى مذلة ولا تركنوا إلى هوان، ودعوا هذه المنازل الصغيرة التي لا تدل على غير العبث والمجون واللهو والفضول والغفلة والصغار في يوم شرف العالم فيه بظهور أسمى رمز للعزة والفخار وبمولد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أضف تعليقك