بقلم: وائل قنديل
عاد الكيان الصهيوني من الخليج منتشيًا بهذه الفتوحات التاريخية في عواصم لم تكن، في السابق، تجرؤ على الجهر بالتطبيع، فأراد أن يستثمر حصيلة الجولة في تأديب غزة، عقدته الوجودية التي أذلّت غطرسته، وداست بأقدامها على أساطير التفوّق المادي.
وأزعم أننا نسيء كثيرًا إلى غزة، ونهين مشروع المقاومة، مشروع حياة غزة، حين نفسّر العدوان الصهيوني أخيرا بأنه محاولة من الاحتلال لانتشال قتلة جمال خاشقجي من ورطتهم، بوصفهم رهانًا إسرائيليًا على المستقبل الذي تفرض فيه هيمنتها على الخريطة العربية، كما أن في ذلك إهانة لروح الشهيد جمال خاشقجي أيضًا، ذلك أن الصهاينة لم يكونوا حملانَ وديعةً قبل اغتيال خاشقجي، ثم تحوّلوا إلى أوغاد بعد اغتياله، فهم قتلة وسفاحون طوال الوقت، وكراهيتهم غزة وإصرارهم على سحقها واجبٌ كل وقت بالنسبة لهم، ناهيك عن إن إسرائيل، حسب تعبير صديق فلسطيني من غزة، لا تشتغل عند طرفٍ عربي، بل تريدهم جميعًا شغالين عندها، ثم لماذا تنتشلهم بينما هي تحصل، ومعها رجلها الوفي في البيت الأبيض، على الأكثر والأغلى كلما كانوا مطروحين أرضًا تحت قدميها؟.
كما أنها لم تكن لتجد أفضل من الوضع الراهن، حيث حروب العرب ضد العرب على أشدّها، لمناسبة اغتيال خاشقجي، أو من دونها، وحيث الرأي العام العربي محبوسٌ ومستنزفٌ في دواحس وغبراوات كُثُر، فلماذا لا تستثمر هذه الظروف في توجيه ضربةٍ ظنّتها ساحقةً ماحقةً لمشروع المقاومة في غزة؟.
غير أنها، كما في كل مرة، ومثل كل الأمهات الرائعات، تطل علينا غزة بوجهها الصبوح في أحلك الأوقات، تطمئننا وتثبتنا وتملأنا بالأمل. والأهم من ذلك تذكرنا بالأبجديات، وتقوّم الانحراف والاعوجاج، وتعيد تعريف الأشياء وصياغة المعاني، وتحرق كل الأوراق في أيدي كل اللاعبين.
تزورنا غزة، توقظنا حين نخلد للنوم على وسائد الوهم والخرافة، تهزّنا هزًا فيتساقط الكذب المعشّش في الرؤوس، ويُستعاد الوعي المعذّب في أقبية التسويات ودهاليز إعلامٍ يشوي الوجوه بخطاب الواقعية الانهزامية، وأباطيل التسليم بمعادلات القوة وموازين القدرة.
حضرت غزة في أعقاب صراع عربي على الظفر بكأس الهرولة، في أيامٍ نحساتٍ، استمتع فيها الصهاينة بدفء الاستقبال في عواصم الخليج، بما بدا معه وكأن الجميع سلموا أنفسهم للمشيئة الصهيونية، وراحوا يتنافسون على المواقع الأكثر قربًا منها.
تقول لنا غزة إن الهزيمة ليست قدرًا محتومًا على كل بقعة في أرض العرب، وأن الضعف والاستسلام ليسا الخيار الوحيد لنا، وأن الإنسان هو قوة الوطن الحقيقية، وأن الإيمان بالحق هو القدرة التي تقهر ترسانات الأسلحة وأساطيل الغطرسة، هذا الإنسان المسحوق المغيّب المقتول خنقًا، وتقطيعًا بالمناشير في كل بلاد العرب، إلا غزة، وحدها تقدّس الحياة فلا تهاب الموت، ولا تعرف الخوف، ولا تختبئ خلف جدران الضعف.
في كل مرةٍ، يضاعف العدو من حقده، ويكثف ضرباته المجنونة، يكون انتصار غزة أقوى وأوضح، ذلك أنها تمتلك الترسانة الأقوى، ترسانة القوة الروحية، والوعي المكتمل في رأس مواطن غزة، طفلًا وشابًا وشيخاً: نحن محتلون إذن، فالمقاومة جوهر وجودنا، هي غايتنا ووسيلتنا المشروعة والوحيدة من أجل البقاء.
من هنا، ينبت الإبداع، وهنا يكون التعليم سلاحًا رئيسًا، لتسجل غزة أرقامًا تتفوّق بها على كثير من عرب الوفرة والتخمة في جدول المناطق الأقل في نسبة الأمية، بحسب إحصاءات اليونسكو. وهنا تكون معجزة تطوير القدرة الصاروخية وامتلاكها في المنطقة التي يخنقها الشقيق بالحصار أكثر من العدو، وتلك هي المعادلة المعجزة: غزة كلما اختنقت، انفجرت إبداعًا مذهلًا في القدرة على الحياة والبقاء والتطور، وكلما اغتالوا فيها عقلًا نبتت عقول جديدة تحمل الشعلة، وتواصل الابتكار لتصنيع السلاح، فبعد مؤسس "القسام"، صلاح شحادة (اغتيل عام 2002)، جاء "المهندس" يحيى عياش (اغتيل عام 1996)، فصعد قائد جديد لتطوير التصنيع المحلي عدنان الغول (اغتيل عام 2004)، ثم جاء سعد العربيد (اغتيل عام 2004)، فظهر من أدخل التكنولوجيا الحديثة إلى عمليات التصنيع، رئيس أركان "حماس"، مروان عيسى، الذي خلف أحمد الجعبري الذي استشهد عام 2012.. وهكذا حتى جاءت الليلة الفائتة، وأمطرت السماء فوق الاحتلال مئات من صواريخ المقاومة، فعرف العالم أن العجز لا يبيت في غزة، وأنها لا تمنح صداقتها للمنهزمين.
شكرًا غزة، ودام حضورك فينا.
أضف تعليقك