ولد الأستاذ حسن الهضيبي سنة 1309ﻫ - 1891م في قرية عرب الصوالحة، مركز شبين القناطر، وحفظ القرآن الكريم, وهو صغير، والتحق بالأزهر الشريف ثم تركه والتحق بالمدارس العامة ليصل إلى كلية الحقوق - لحبه الشديد للزعيم مصطفى كامل - وبعد تخرجه عام 1915م عمل محاميًا، قبل أن يعمل في النيابة عام 1924م ويتدرج فيها إلى أن يصل لنائب رئيس محكمة النقض ليستقيل بعدها عام 1951م وليتفرغ لقيادة الإخوان المسلمين ويصبح المرشد الثاني للجماعة.
قال عنه الإمام البنا وهو يقدمه للإخوان: "وسعادته خير قدوة لرجال القانون، فقد عرف في جميع مراحل حياته بالكفاية وسمو الخلق والغيرة على الإسلام والدعوة"، وكتب العديد من المقالات، وكان من أكثر القضاة استرشادًا في أحكامه بما جاء في الكتاب والسنة.
كان حجر الزاوية في أخذ قرار ثورة 23 يوليو، غير أن الضباط انقلبوا عليه - خاصة عبدالناصر - لصلابته في الرأي ضد مواقفهم المتمسكة بالسلطة، ولذا اصطدموا به في مواقف كثيرة، حتى اعتقل في يناير 1954م وخرج بعدما تحركت المظاهرات في مارس من نفس العام، قبل أن يسافر إلى سوريا ولبنان والأردن في جولة وينتقد اتفاقية الجلاء، والتي بعدها وقعت حادثة المنشية ليحكم عليه بالإعدام قبل أن يخفف عنه الحكم ويظل في السجن حتى أفرج عنه عام 1971م، حيث عاصر فترة من أحلك الفترات التي مرت بالجماعة وأفرادها، وظل مرشدًا للجماعة حتى توفاه الله في 11 نوفمبر من عام 1973م.
رزقه الله بالعديد من الأولاد الذين تركوا بصمات في مجريات التاريخ، أمثال المستشار المأمون الهضيبي، المرشد العام السادس للإخوان، وإسماعيل، المحامي، وعالية الهضيبي، وخالدة، وسعاد، والذين تحملوا المحنة والمعتقلات مع والدهم ووالدتهم.
حسن إدارة الموقف
كان الأستاذ الهضيبي، رحمه الله، مدرسة في إدارة الموقف دون أن يحدث أزمة لتصرفه، فحينما ذهب ليقسم اليمين أمام الملك أثناء تعيينه قاضيًا، كان البرتوكول يحتم أن يدخل القاضي منحنيًا ويخرج منحنيًا، دون أن يعطي ظهره للملك، إلا أن الهضيبي كسر هذه القاعدة والتي سار عليها كل القضاة من بعده، يقول أحد زملائه: كان أول مَن كسر تقاليد الانحناء بين يدي الملك، عند حلفه اليمين القانونية التي يؤديها أمامه قبل تولي مناصب المستشارين، إذ كانت دفعته حوالي عشرة، سبقه منهم خمسة لم يترددوا في الانحناء عند حلف اليمين رغم تهامسهم بالتذمر من هذا التقليد المهين، حتى إذا جاء دور الهضيبي، الواهن البنية الصامت اللسان، فاجأ الجميع بأن مدَّ يده لمصافحةِ الملك وأقسم اليمين منتصب القامة مرفوع الجبين، بصورةٍ أنعشت الإباء فيمن بعده، فأدى يمينه قائمًا عالي الرأس، وهو يقول لنفسه: "إذا شنقوا الهضيبي فليشنقوني معه"، وتبعهما سائر المستشارين فصافحوا الملك وأقسموا اليمين دون تخاضع أو انحناء.
أزمة الصف ووحدته
لقد تعرض صف الجماعة إلى هزة بعد استشهاد الإمام البنا، وتصارعت بعض الأجنحة على شغل مكانه، إلا أن فريقًا من قادتها رأى في المستشار الهضيبي الربان المحترف، فتوافق الجميع على أن يتولى زمام الأمر، حتى إنه قال: إني أعلم أنني أقدم على قيادة دعوة استشهد قائدها الأول قتلاً، واغتيالاً، وعذب أبناؤها، وشردوا، وأوذوا في سبيل الله، وقد ألقى ما لاقوا، وإني على ما أعتقده في نفسي من عدم جدارة بأن أخلف إمامًا مصلحًا مثل حسن البنا - رحمه الله - وأنزل عند رغبة الإخوان، أداء لحق الله جل وعلا، لا أبتغي إلا وجه الله، ولا أستعين إلا بقدرته وقوته.
ولذا ما إن أطلّت الفتنة برأسها يحركها عبدالناصر ورفاقه، ويستخدم بعض شخصيات النظام الخاص في ضرب صف الجماعة حتى كان الهضيبي يمسك بطرف المعادلة، حتى استطاع أن يخرج بالجماعة من هذه الفتنة الشديدة دون أن تختل الجماعة، كما لم يعط الرخصة لأي شخص أن يفرض وصايته على الجماعة.
دعاة لا قضاة
حينما أطلت فتنة التكفير برأسها، وتبناها بعض من لم يتحملوا التعذيب في السجون، وغذاها الضابط عبدالعال سلومة بإيعاز من النظام، ورغم أن الهضيبي كان محبوسًا فإنه لم يترك الجماعة تتقاذفها أمواج الفتن، فوقف أمام هؤلاء وناقشهم ودحض فكرهم وأذاب القواعد والأركان التي يستندون إليها ووضح لهم خطأهم حتى دفع الكثير منهم إلى الاقتناع والعودة إلى صفوف الجماعة، ومن تمسك برأيه أعلن وقتها للجميع أن هذه الجماعة لها منهج ثابت؛ فمن حاد عنه فليبحث له عن يافطة أخرى غير يافطة الإخوان يعمل تحت لوائها؛ لأن أفراد الجماعة دعاة لا قضاة.
الورع عمَّا يستبيحه آخرون
تميز الأستاذ الهضيبي برتبةٍ عاليةٍ في الورع عمَّا تعارف عليه الناس على إباحته من توافه الأشياءِ التي تضعها الدوائر الحكومية والمؤسسات التجارية في خدمةِ موظفيها كالأوراق والأقلام وغيرها من المهملات؛ إذ كان يُحرِّم على نفسه وذويه استعمال شيء منها في شأنٍ خاصٍّ، وكان يعود من المحكمة - وهو قاض أو محقق - وفي حقيبته أكداس من ورقة التسويد الرخيصة (الخرطوش) ليخطط عليها مشروعات القرارات والأحكام القضائية، فلا يسمح لنفسه قط باستعمال ورقة منها ولو كانت دون الإصبع في أمر يخصه أو يخص واحدًا من أهله، فإذا رآها واحد من أولاده في غرفته وطلب ورقة منها لبعض حاجته أنكر عليه أبوه وأعطاه قرشًا يشتري به ما يحتاج إليه من الورق ثم لقنه أمام إخوته الدرس الذي لم ينسوه بأن أوراق الحكومة ملك لها، لا يحل لأحد أن يستخدمها في شأن خاص به.
كان الأستاذ عبدالحكيم عابدين، سكرتير مكتب الإرشاد، وفي يوم مرض ابنه هشام ودخل المستشفى، وتصادف أن دخل رئيس الديوان الملكي المستشفى نفسه، وتوجه المستشار الهضيبي لزيارة هشام بن عبد الحكيم، يقول عبدالحكيم عابدين: في ربيع عام 1952م كان طفلي هشام يُعالَج بمستشفى الدكتور عبد الوهاب مورو (باشا) وقدم المرشد العام مشكورًا لزيارته، ولما همَّ بالانصرافِ بعد جلسةٍ طويلةٍ غمر فيها هذا الطفل ببره وعطفه، أشرتُ عليه بزيارة رئيس الديوان الملكي، وكان يعالج بنفس المستشفى، فلمَّا فُوجئت بإعراضه عن الفكرةِ وشرعت أعدّد له محاسنها ومحاذير تركها، ولا سيما أنه رؤى في نفس المستشفى؛ لأنه لا تكاد تمر لحظة دون أن يغص صالون رئيس الديوان بمجموعات من الأمراء ورؤساء الوزارات والشيوخ والنواب وكبار العلماء والوزراء ورجال الصحافة والأعمال، ورحتُ أقنعه بأن زيارة الرجل مجاملة للملك، وهي عيادة مريض على كلَّ حال، إذا به يُصافحني مودعًا وهو يقول: "لقد قصدتُ اللَّهَ تعالى بعيادةِ ولدنا هشام، ولم أقصد الملك بزيارةِ رئيس الديوان"!!.
وقد لخص مصطفى أمين فكرته عن الهضيبي حينما قابله في السجن بقوله: "ولاحظت وأنا أتحدث إلى الهضيبي أنه رجل قليل الكلام تتوهم أنه صارم بينما هو رجل رقيق هادئ فيه طيبة ممتزجة بالذكاء الحاد، قوي الملاحظة".
أضف تعليقك