الأستاذ جمعة أمين
أم عمارة رضى الله عنهما:
أخرج محمد بن عمر الواقدى بإسناده عن شيوخه قالوا: وكانت نسيبة بنت كعب أم عمارة وهي امرأة غزية بن عمرو وشهدت أحداً هي وزوجها وابناها وخرجت معها شن لها في أول النهار تريد أن تسقى الجرحى فقاتلت يومئذ وأبلت بلاء حسنا فجرحت اثني عشر جرحا بين طعنة برمح أو ضربة بسيف .
فكانت أم سعد بن الربيع تقول: دخلت عليها فقلت لها: يا خالة حدثيني خبرك فقالت: خرجت أول النهار إلى أحد وأنا أنظر ما يصنع الناس ومعي سقاء فيد ماء فانتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في أصحابه والدولة والريح للمسلمين لما أنهزم المسلمون انحزت إلى رسول الله صلى الله عليه وسل فجعلت أباشر القتال وأذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف وأرمى بالقوس حتى خلصت إلى الجراح.
فرأيت على عاتقها جرحا له غور أجوف فقلت: يا أم عمارة من أصابك بهذا؟ قالت: أقبل ابن قميئة وقد ولى الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبح: دلوني على محمد فلا نجوت إن نجا فاعترض له مصعب بن عمير وأناس معه فكنت فيهم فضربني هذه الضربة ولقد ضربته على ذلك ضربات ولكن عدو الله كان عليه درعان.
قلت: يدك ما أصابها؟ قالت: أصيبت يوم اليمامة لما جعلت الأعراب ينهزمون بالناس؟ نادت الأنصار: ((أخلصونا)) فأخلصت الأنصار فكنت معهم حتى انتهينا إلى حديقة الموت فاقتتلنا عليها ساعة حتى قتل أبو دجانة على باب الحديقة ودخلتها وأنا أريد عدو الله مسيلمة فيتعرض لي رجل منهم فضرب يدي فقطعها فوا الله ما كانت لي ناهية ولا عرجت عليها حتى وقفت على الخبيث مقتولاً وابني عبد الله بن زيد المازنى يسمح سيفه بثيابه فقلت: قتلته ؟ قال : نعم فسجدت شكراً لله وكان ضمرة بن سعيد يحدث عن جدته وكانت قد شهدت أحداً تسقى الماء قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : لمقام نسيبة بنت كعب اليوم خير من مقام فلان وفلان ! وكان يراها تقاتل يومئذ أشد القتال إنها لحاجزة ثوبها على وسطها حتى جرحت ثلاث عشر جرحاً فلما حضرتها الوفاة كنت فيمن غسلها فعددت جراحها جرحا جرحا فوجدتها ثلاثة عشر جرحا وكانت تقول: إني لأنظر إلى ابن قمئة وهو ضربها على عاتقها وكان أعظم جراحها لقد داوته سنة ثم نادى منادى النبي صلى الله عليه وسلم إلى حمراء الأسد فشدت عليها ثيابها فما استطاعت من نزف الدم ولقد مكثنا ليلنا نكمد الجراح حتى أصبحنا فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحمراء ما وصل إلى بيته حتى أرسل إليها عبد الله ابن كعب المازنى يسأل عنها فرجع إليه يخبره بسلامتها فسر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك.
قال الواقدى: حدثني سعيد بن أبى زيد عن مروان بن أبى سعيد بن المعلى قال قيل لأم عمارة: هل كن نساء قريش يومئذ يقاتلن مع أزواجهن؟ فقالت: أعوز بالله ما رأيت امرأة منهن رمت بسهم ولا بحجر ولكن رأيت معهن الدفاف والأكبار يضربن ويذكرن القوم قتلى بدر ومعهن مكاحل ومراود فكلما ولى رجل أو تكعكع ناولته إحداهن مروداً ومكحلة ويقلن: إنما أنت امرأة! ولقد رأيتهن ولين منهزمات مشمرات ولها عنهن الرجال أصحاب الخيل ونحوا على متون الخيل يتبعن الرجال على الأقدام فجعلن يسقطن في الطريق ولقد رأيت هند بنت عتبة وكانت امرأة ثقيلة ولها خلق قاعدة خاشية من الخيل ما بهن مشى ومعها امرأة أخرى حتى كر القوم علينا فأصابوا منا ما أصابوا فعند الله نحتسب ما أصابنا يومئذ من قبل الرماة ومعصيتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الواقدى: حدثني ابن أبى سبرة عن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبى صعصعة عن الحارث بن عبد الله قال: سمعت عبد الله بن زيد بن عاصم يقول: شهدت أحداً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما تفرق الناس عنه دنوت منه وأمي تذب عنه فقال: يا ابن أم عمارة ! قلت : نعم قال: ارم ! فرميت بين يديه رجلاً من المشركين بحجر وهو على فرس فأصبت عين الفرس فاضطرب الفرس حتى وقع هو وصاحبه وجعلت أعلوه بالحجارة حتى نضدت عليه منها وقراً والنبي صلى الله عليه وسلم ينظر ويبتسم فنظر إلى جرح بأمي على عاتقها فقال: أمك أمك ! اعصب جرحها بارك الله عليكم من أهل بيت ! مقام أمك خير من مقام فلان وفلان ومقام ربيبك يعنى زوج أمه خير من مقام فلان وفلان ومقامك لخير من مقام فلان وفلان في الجنة رحمكم الله أهل بيت ! قالت : ادع الله أن نرافقك في الجنة قال : اللهم اجعلهم رفقائي في الجنة قالت : ما أبالي ما أصابني من الدنيا .
إن هذه الأعمال الجهادية الخشنة لا يستغرب صدورها من الرجال لأنهم خصوصا في ذلك العهد قد مرنوا عليها وألفت عليها أجسامهم لكن صدور ذلك من النساء غير مألوف عادة فكون أم عمارة تقوم بذلك الجهد الكبير وتواصل الدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم رغم إصابتها بتلك الجراح التي بلغت ثلاثة عشر يعتبر تضحية كبيرة وطاقة عالية غير معتادة ولا يشك المتأمل بأن هذه الصحابية الجليلة قد حظيت بعون من الله تعالى جعلها تصمد ذلك الصمود العجيب وتقدم ذلك الجهد الكبير.
ومن المدهش في خبر تلك المرأة العظيمة أنها لن تقدم نفسها في الجهاد فحسب بل قدمت ابنيها ليكونا فداء للنبي صلى الله عليه وسلم ولئن كان الدافع لدى زوجها وابنيها مألوفا في مجتمع الصحابة رضى الله عنهم فإن صدور ذلك من أمهما وهي تشاهدها وتتوقع في أي لحظة أن يكونا تحت سنابك الخيل شهيدين .. إن ذلك يعتبر مثالا عاليا لقوة الإيمان ورسوخ اليقين وعظيم التضحية
فلهذه الأفاعيل الكبيرة والتضحيات العالية من أم عمارة بنفسها وبحث بنيها على الجهاد نجد رسول لله صلى الله عليه وسلم يثنى عليه ذلك الثناء الطيب ولكنها لقوة إحساسها بالحياة الآخرة وشدة استحضارها لم أعده الله تعالى لأهل الجنة من النعيم المقيم لا تكتفي بسماع ذلك الثناء من رسول الله صلى الله عليه وسلم بل تهتبل هذه الفرصة الغالية لتطلب منه صلى الله عليه وسلم أن يدعو الله تعالى لها ولأفراد أسرتها بمرافقته في الجنة وهي تعلم علم اليقين أنه في أعلى عليين .
ونجد أم عمارة مع هذا الجهد الكبير والجراح المتعددة المؤلمة تقوم لتشد عليها ثيابها لما سمعت منادى رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو المسلمين لملاحقة جيش العدو في حمراء الأسد ولكنها لم تستطع المشاركة في هذه المهمة لأن جراحها مازالت تنزف دما فأي عزيمة كانت تملكها تلك المرأة وأي حيوية كان يشتمل عليها قلبها الكبير ؟!! .
إن الطاقة لدى الفرد المسلم لا تحدها الحدود المعتادة إذا كان وراء تلك الطاقة إيمان قوى محرك وإذا كانت هذه المرأة المؤمنة قد قامت بهذه العجائب وهي لم تكن مؤهلة لذلك بحكم طبيعتها النسوية فكيف بالرجال إذا ملكوا ذلك الإيمان القوى الحيوي ؟!
وتمر الأيام ويقع المسلمون في لحظات حرجة جداً وهم يواجهون أعنف مقاومة واجهوها في حروب الردة وتبرز أم عمارة بصحبة ابنها لتبحث عن رأس المشركين المرتدين مسيلمة الكذاب وهي تريد أن تتصدى لقتله وإراحة المسلمين منه ولا تبالي وهي تدفع نفسها لهذا الهدف العالي بيدها التي قطعت وهي تؤدى هذه المهمة لأن الله تعالى قد أبقى لها اليد الأخرى التي بإمكانها أن تبذل بها ما تستطيع من طاقة ولكن ابنها عبد الله ابن زيد المازنى يسبقها لأداء هذه المهمة فيشارك في قتل رأس الكفر مسيلمة وتقر عين أم عمارة بهذه النهاية الحميدة للمسلمين وبما قدمه ابنها للإسلام والمسلمين من عمل جليل .
ومن أمثال أم عمارة أسماء بنت أبى بكر التي قالت لابنها عبد الله بن الزبير حين أراد الحجاج قتله فقال لأمه : أخاف إن قتلونى أن يمثلوا بى فقالت : هل يضير الشاة سلخها بعد ذبحها ؟.
والخنساء التى استشهد أربعة من أبنائها في موقعة القادسية فقالت : الحمد لله الذي شرفنى باستشهادهم وأسأل الله أن يلحقني بهم في مستقر رحمته والتاريخ ملىء بهذه الصور والنماذج المشرفة قديما وحديثا لا نستطيع حصره .
إن المواقف الإيمانية يثمر بعضها بعضاً حتى يعظم أمرها ويكثر نفعها ويستحق المؤمنون نصر الله الذي وعده لعباده المؤمنين كما قال تعالى { ولقد أرسلنا من قبلك رسلا إلى قومهم فجاءوهم بالبينات فانتقمنا من الذين أجرموا وكان حقاً علينا نصر المؤمنين } الروم 47 ] فإذا وفق بعض المسلمين لمثل هذه المواقف الإيمانية وبذل الناس في الله عز وجل عند ذلك يتنزل نصر الله عز وجل .
والإيمان هو الذي يدفع المؤمنين إلى البذل والتضحية كما قال الله عز وجل {إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل لله أولئك هم الصادقون } الحجرات 15]
أما من يدعى الإيمان ويبخل عن البذل في سبيل الله ويجبن عن الجهاد لإعلاء كلمة الله فهيهات هيهات أين الصدق ، وإنما يكون عمل الجوارح تصديقاً لما في القلب فلما كانت قلوب المنافقين خالية من الإيمان كافرة بالرحمن { فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حراً } التوبة 81 ].
ووصف الله عز وجل عبادتهم فقال { إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا ً } النساء 142].
فبهذه المواقف الإيمانية تفتح الحصون وتسقط القلاع ويتنزل نصر الله عز وجل على المؤمنين وتقر أعينهم بالفتح المبين فأين للمسلمين اليوم بمثل هؤلاء الفرسان الشجعان ولا تعجب فالصحابة رضى الله عنهم أعمالهم كلها عجيبة وهي تدل على صدق إيمانهم وشجاعتهم .
ولا تزال طائفة من هذه الأمة تحمل الراية وتزود عن الحوض وتقدم النفس رخيصة فداء للدين والوطن والعرض لأنهم تربوا على ذات المنهج الذي تربى عليه الصحابة رضوان الله عليهم وأرضاهم ومنهم على سبيل المثال من استشهد في فلسطين والقتال وحرى بنا أن نعرج على هذه القضية لنرى مقدار تضحيات الرجال من أجلها ليرتبط الماضي بالحاضر في مسيرة التضحيات ولا نقصد بذلك الحديث عن التضحيات التي قام بها لا أقول الإسلاميون فحسب بل الوطنيون جميعًا وهذا لا يتسع له مجلدات ولكن أشير هنا إلى بعض ما قدمه الإسلاميون من تضحيات وأخص منهم الإخوان إذ أن الشعب الفلسطيني كغيره من الشعوب المضطهدة والمشردة والتي ما زالت تبذل النفس والمهج في سبيل استرداد الدين والعرض والأرض .
أضف تعليقك