• الصلاة القادمة

    الظهر 11:01

 
news Image
منذ ثانية واحدة

بقلم: وائل قنديل

كان سؤال أين الجثة الشغل الشاغل في قضية اغتيال الشهيد جمال خاشقجي على مدار الأسابيع الماضية، وهو سؤالٌ على قدر أهميته، إلا أنه ليس جوهر القضية، بل كان يبدو لي أحيانًا كأنه قنبلة دخان للتعتيم على الجريمة الأصلية، مثل إشعال الجدل عن دية الشهيد ومشروعيتها، ومن يدفع ومن يستحق، إلى آخر هذه الثرثرة التي تصرف الأنظار عن لب الموضوع.

الآن، تأتي الإجابة من تركيا: الجثة ذابت بالأحماض على يد فريق سعودي مدرّب، وهي إجابة تشبه سابقتها: خاشقجي اغتيل بطريقة وحشية داخل القنصلية السعودية في اسطنبول، على يد فريق سعودي جاء خصيصًا إلى الأراضي التركية، لتنفيذ هذه العملية الإجرامية.

كان من المفترض، بعد ذلك، أن يكون الانشغال بحثًا عن إجابات عن الأسئلة الرئيسية: من كلف فريق القتلة.. من أرسل الفريق.. ولمصلحة من نفذ الفريق جريمته؟.

ذلك كله، وبحسب تسريبات المصادر التركية، مثبت وموثق بالصوت والصورة، ونسخ منه لدي دول أخرى معنية بهذه الجريمة، لكنه لم يخرج إلى العلن بشكل رسمي حتى هذه اللحظة، وأظن الآن أنه إعلانه بات واجبًا أخلاقيًا وقانونيًا، لا ينبغي أن يخضع، بحال من الأحوال، لمواءمات واعتبارات سياسية.

أذابوا الجثة، لكن الحقائق لا تذوب، مهما وضعت في أحماض، أو أضرمت فيها النيران، ذلك أن الحقائق يمكن أن تخبأ، أو تدفن، لكنها أبدًا لا تموت ولا تتحلّل، وتبقى دائمًا في مكان ما، هناك في جوف ذاكرة التاريخ، تنتظر من يملك جسارة إخراجها كاملةً غير منقوصة، وغير قابلة للتجزئة.

معطيات الحقيقة تقول إن الجريمة وقعت في مقر القنصلية، وبحضور القنصل، والجثة نقلت للتقطيع والتذويب في مقر القنصل، والقنصل هو الممثل الرسمي للحاكم، لا يبتكر ولا يجتهد، بل ينطلق في كل أقواله وأفعاله من قاعدة أنه ينفذ، حرفيًا، سياسات من اختاره وابتعثه، ناهيك عن أن المنفذين هم من رجال الحاكم المقرّبين، وفي بلادنا السعيدة لا مجال لاجتهاد موظف في أشياء أصغر من ذلك بكثير، فما بالك بجريمةٍ هي الأبشع في تاريخ الإجرام السياسي.

والحقائق الآن مكتملة، تصرخ في وجه النظام العالمي، وتضعه أمام السؤال: مع الإنسانية أم مع الهمجية، حيث لم تعد المسألة مقتل مواطن سعودي داخل قنصلية سعودية على يد فاعلين سعوديين، بل صار جمال خاشقجي تجسيدًا للإنسان في كل مكان في العالم، قضيته لم تعد سجالًا ثنائيًا بين دولتين، أو ثلاثيًا، أو مداولًة وتداولًا بين أكثر من ذلك على موائد السياسة، سيما وأن الأمم المتحدة أعلنت، متأخرًا جدًا، دخولها في الموضوع، ومن ثم لم يعد أحد يمتلك رفاهية التهرّب من إشهار الأدلة كاملة، والإفصاح عن الفاعلين الأصليين، والكف عن العبارات المبهمة، من نوعية "قرار الاغتيال صدر من أعلى المستويات".

من حق العالم، في هذه اللحظة، أن يستمع لصوت الشخص الذي طلب الإتيان له برأس الشهيد، وأن يعرف اسمه، إذا كانت هناك بالفعل تسجيلاتٌ مصورةٌ لسيناريو الجريمة.

من حق الإنسان المنتمي لهذا الكوكب أن يعرف أين يعيش، في عالمٍ تحكمه منظومة عدالة وقيم إنسانية، أم في عالم دونالد ترامب، حيث كل شيء قابل للبيع والاستثمار والمقايضة؟.

 لا يحتاج العالم أن تتحوّل مأساة اغتيال خاشقجي إلى مهرجانات تأبين وحفلات للخطابة والرثاء، بل يحتاج إلى مواصلة مطالبة من يمتلكون الحقائق الموثقة والأدلة الدامغة بإظهارها وعرضها على الضمير العالمي، وأن تتقدّم قيم العدالة على اعتبارات السياسة. ومن دون ذلك، سيكون الجميع مشاركين في الجريمة، الذين أذابوا الجثة، والذين أذابوا الحقيقة.

أضف تعليقك