بقلم: اللواء عادل سليمان
التطبيع مصطلح دخل على أدبيات الصراع العربي الإسرائيلي، عقب عقد اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية في العام 1979، والتي ترتب عليها الاعتراف بدولة العدو الإسرائيلي، وإقامة علاقات دبلوماسية بين البلدين، ليرتفع علم إسرائيل على مقر سفارتها في القاهرة. وتضمنت الاتفاقية تفاهمات أمنية واقتصادية وسياحية. وبقي ذلك كله على المستوى الرسمي في إطار اتفاق السلام التعاقدي الموقع بين الحكومتين، بينما بقيت قوى المجتمع المدني ومؤسساته الثقافية، والاقتصادية، والمجتمعية، والنقابية، بمنأىً عن ذلك التطبيع، ولا زالت على موقفها، بعد مرور قرابة أربعين عاماً على توقيع اتفاقية السلام. تكرّر الموقف بعد ذلك بأشكال مختلفة بين منظمة التحرير الفلسطينية والعدو الإسرائيلي، بعد توقيع اتفاقية أوسلو في العام 1993، ثم ما بين المملكة الأردنية والعدو الإسرائيلي بعد توقيع اتفاقية السلام بينهما في العام 1994.
وفي مطلع العام 2011، هبت على المنطقة رياح ثورات الربيع العربي، ورأت فيها إسرائيل خطراً حقيقياً على كيانها في حالة نجاحها، لما كانت ترفعه من شعارات الحرية، والديمقراطية، وفرض السيادة الشعبية. آثرت إسرائيل الصمت، ومراقبة الموقف، في انتظار تفجر الصراع المحتمل بين تيارات ثورات الربيع العربي، بشعاراتها البرّاقة ذات الطابع الرومانسي، وسقف طموحاتها الذي تجاوز بكثير قدراتها المادية على أرض الواقع، وقوى الثورات المضادة، المتمثلة فى مؤسسات الدولة العميقة الراسخة بكل مصالحها، ومصالح القوى الأجنبية المتحالفة
"لن ينجح المخطط الصهيوني في تسويق التطبيع هذه المرة منطلقاً من الخليج" معها، سواء الإقليمية أو الدولية، وتداعت الأمور بشكل دراماتيكي سريع، حيث تكسّرت رياح ثورات الربيع العربي على صخور الثورات المضادّة. وتصاعدت نغمة الحرب على الإرهاب، مع ظهور تنظيم داعش المفاجئ في العراق وسورية، وإعلانه قيام "الدولة الإسلامية". واختلط الحابل بالنابل، وحدث الخلط المتعمد بين التنظيمات الإرهابية التي ترفع راية الجهاد وتيارات الإسلام السياسي المعتدلة، بتنظيماتها المختلفة. وسادت المنطقة العربية حالة من الاضطراب الشديد، على وقع الحروب والاقتتال على مختلف المستويات. وفي مناطق متعدّدة، فى العراق وسورية وليبيا واليمن ومصر في شبه جزيرة سيناء. واشتعلت الأزمات الإقليمية، لعل أشدها أزمة الخليج بين رباعي السعودية والإمارات والبحرين ومصر من جهة وقطر من جهةٍ أخرى، ومشكلات ثنائية، مثل مشكلة سد النهضة وما قد يترتب عليه من آثار سلبية على حصة مصر من مياه النيل، ومشكلة حلايب وشلاتين على الحدود بين مصر والسودان.
في وسط كل تلك الأجواء المضطربة، ظهرت على السطح فجأة مشكلة لم تكن فى حسبان أحد، وهى جريمة قتل الصحافي السعودي، جمال خاشقجي، البشعة، في قنصلية بلده في إسطنبول، وما يحيط بكل الجريمة من ملابساتٍ غامضة، ولاحقا اعترفت السلطات السعودية بقتل خاشقجي داخل القنصلية بعد استدراجه إليها، وأعلنت عمّن ارتكبوا الجريمة، وأنها احتجزتهم رهن التحقيقات. والمهم هنا ما كشفه هذا الحادث من عمق الأزمة التى تعيشها بعض النظم العربية في المنطقة، وما تعانيه الشعوب من انتهاكٍ بشعٍ لحقوق الإنسان.
كشفت كل تلك الظروف مدى ضعف النظم العربية وتهافتها، وافتقادها الظهير الشعبي الحقيقي الذي يُكسبها الشرعية. وبالتالي، حاجتها الماسّة للدعم الخارجي، وبالتحديد الدعم الأميركي، وهذا ما أدركته إسرائيل مبكراً، وأبدت استعدادها لتقديم خدماتها للنظم العربية في هذا الشأن. وبدأت تحرّكها في تنسيق تام مع إدارة الرئيس دونالد ترامب، وأركانها المؤيدة للصهيونية، وكان الثمن واضحاً، فبينما يركز ترامب على سلب الأموال العربية، اتجهت إسرائيل إلى السعي إلى تكريس وجودها، والقبول بها واحدةً من دول الإقليم، وإنهاء فكرة العداء التاريخي، والصراع العربي الإسرائيلي. وبدأ يظهر الحديث عن السلام الدافئ، وعن الجار الإسرائيلي، وعن العدو المشترك للعرب وإسرائيل وهو "الشرير" الإيراني، وأن التعاون مع إسرائيل "المتقدمة" سيعود بالنفع على العرب. أما القضية الفلسطينية فالأمر بسيط، الفلسطينيون في الضفة الغربية يعيشون في سلام وحكم ذاتي، ويمكن لهم أن يرتبطوا بالأردن، كما كان الحال قبل ذلك. والفلسطينيون فى قطاع غزة أيضا يعيشون في سلام في ظل هدنة طويلة الأجل، وفك الحصار. ويمكن لهم إقامة علاقات جيدة مع مصر، أما القدس فهي عاصمة أبدية لإسرائيل، ولكن للمسلمين الحق فى زيارة المسجد الأقصى والصلاة، أليس هذا ما يريدونه؟ وتنتهي مشكلة اللاجئين وحقهم في العودة، فمن يرد العودة فليعد إلى الضفة الغربية أو قطاع غزة.
ولأنها تعلمت الدرس جيداً، فإن إسرائيل تدرك أن أي اتفاقاتٍ مع نُظم الحكم، والحكام، ستبقى رهناً ببقاء تلك النُظم، وأولئك الحكام، بينما الشعوب تبقى على عدائها للكيان الصهيوني المُحتل، فقد اتجهت الى محاولة مخاطبة الشعوب مباشرة، بإعادة تجربة "التطبيع". واختارت هذه المرة الوسيلة الأكثر تأثيرا لدى الشعوب، الرياضة والتلقائية. ففي وسط كل ما تعيشه المنطقة من
"ما يجري كشف مدى ضعف النظم العربية وتهافتها، وافتقادها الظهير الشعبي الحقيقي الذي يُكسبها الشرعية" أجواء مضطربة، وخصوصا في منطقة الخليج والعربية السعودية، أعدت إسرائيل قطاراً سريعاً للتطبيع اتجه مباشرة إلى قلب الخليج، واختار محطاته بعناية، توقف في محطة أبو ظبي، لتهبط منه بعثة رياضية ترأسها وزيرة الثقافة والشباب، للمشاركة في بطولة دولية للعبة الجودو تحت العلم الإسرائيلي. ووقفت الوزيرة تذرف الدموع في أثناء رفع العلم الإسرائيلي، وعزف النشيد الوطني عند تسلم أحد اللاعبين ميدالية الفوز. ثم كان المشهد الثاني، والوزيرة تزور أكبر مساجد أبو ظبي والمنطقة، مسجد الشيخ زايد، ومعها مرافقوها من حكومة الإمارات. ووقفت في ساحة المسجد تشيد به، وتقول إنه ثالث أكبر مسجد بعد الحرمين الشريفين، فتتجاهل بذلك المسجد الأقصى ثالث الحرمين. وينتقل قطار التطبيع السريع إلى الدوحة، أو دوحة المضيوم كما يحلو لأهلها تسميتها، لتهبط منه بعثة رياضية أخرى، بملابسها وأعلامها وأناشيدها الإسرائيلية، للمشاركة في بطولة لعبة الجمباز، وتمضي أياما في الدوحة.
لم تنته رحلة قطار التطبيع السريع، قبل أن تُقدم لنا مفاجأة، حيث يصل القطار إلى عاصمة عربية خليجية أخرى، حاملا هذه المرة رأس الحية نفسها، رئيس حكومة إسرائيل، نتنياهو وزوجته، ومعه وفد أمنى رفيع المستوى، يضم رئيس المخابرات العامة ومستشار الأمن القومى، ويستقبله السلطان قابوس لإجراء المباحثات الرسمية. ويصرّح وزير الخارجية العماني بأنه لا يوجد ما يمنع من زيارة السيد نتنياهو مسقط، فهو رئيس وزراء دولة إسرائيل، إحدى دول الشرق الأوسط. ثم يتصل نتنياهو بالرئيس الأميركي، دونالد ترامب، طالبا منه عدم اتخاذ إجراءات حادّة ضد السعودية، وولي العهد محمد بن سلمان، فيما يتعلق بجريمة قتل جمال خاشقجي، لأن السعودية شريك مهم في التصدّي لإيران.
لن ينجح المخطط الصهيوني في تسويق التطبيع هذه المرة منطلقا من الخليج الذي هو الآن مركز الثقل العربي، ولن تبتلع الشعوب العربية الطُّعم، وستبقى على صلابتها.
أضف تعليقك