رسالة سابقة من الأستاذ الراحل محمد مهدي عاكف- المرشد السابع للإخوان المسلمين
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين.. سيدنا محمدٍ النبيِّ الهادي الأمين، وعلى آلهِ وصحبهِ أجمعين، أمَّا بعد..
إنَّ المُتابع لما يجري الآن على السَّاحة الإنسانيَّة العالميَّة يجد نفسه أمام صورة سوداء، محمَّلة بألوان الدمار والدماء التي تسيل حتى تملأ ضمائر النَّاس، فتثقلها بما لا تطيقه، في ظلِّ حالة الاستبداد والقهر التي باتت تحكم سلوك الأقوى تجاه الأضعف، في سمتٍ بات أساسًا عامًّا لسلوك الإنسان تجاه أخيه الإنسان.
والمراقب الآن لما يحدث من جانب قوى الظلام والحقد الأسود في العالم، والمنضوية تحت لواء التَّحالُف الأنجلو أمريكي- الصهيوني، يتأكَّد تمامًا من حالة الانهيار القيمي والأخلاقي، وكذلك اللا عقلانيَّة التي تسود العالم، فالقتل والدمار هما شعار الاستعمار الأنجلو أمريكي الجديد في أفغانستان والعراق، وكذلك في فلسطين.
حيث لم يكتفِ هذا التحالُف الأسود بما يمارسه من مختلفِ ألوان وصنوفِ البطشِ والدمار في حقِّ الأرضِ والعبادِ والمُقدساتِ، بل يسعى- وقد نجح للأسفِ في ذلك- إلى أنْ تدبَّ الفتنة في صفوف العربِ والمسلمين؛ لكي يشاركَه دعاةُ الفتنة في مهمته السوداء، في ذبح الأمَّةِ والاستيلاء على مقدَّراتها، وتعطيل طاقاتها ومسيرتها، فضلاً عن شغل أبنائها عن أجندة أهدافهم الأصليَّة، في مواجهة ما يُحاك لهم بليلٍ، ويدبَّر لهم من مؤامراتٍ تستهدفهم وتستهدف منظومتهم العقيديَّة والأخلاقيَّة.
هذا التَّحالف كما وَجد له أعوانًا من دعاة الفتنة ممَّن تخلَّوا عن هويتهم وجَد له داعمًا قويًّا أيضًا في بلادنا العربيَّة والإسلاميَّة، وهو الاستبداد الذي ينخر في عظام المواطن العربي والمسلم، بالفساد والفقر ونشر الرذيلة لإبعاده عن دينه وقِيَمِه؛ لإبقائه مُغيَّبًا عن حقائق ما يجري من نهبٍ لثرواته وتعطيلٍ لقدراته، وحقيقة الرسالة التي يجب أنْ يقوم بها لرفعةِ هذا الدِّينِ والنهوض بأحوال البلاد والعباد.
ولعل ما يجري في مصر حاليًا من أحداثٍ جسامٍ تطرح حقيقة الوضع الذي وصلت إليه الأمور، من حمايةٍ للفاسدين مقابل حبسِ الشُّرفاء الذين يريدون رفعة هذا الوطن، وكبتٍ لأبسطِ الحريَّات، والاستيلاءِ على الحقوق، وتزويرِ إرادة الأمة، وتعطيلِ العملِ بشرعِ اللهِ عزَّ وجل؛ ممَّا وصلَ بالسواد الأعظم من الشعبِ المصري إلى حالةٍ من التجهيلٍ وعدمِ القدرةٍ على النهوض بأعباء رسالته الحضاريَّة التي حملها عبر العصور.
"الإسلام هو الحل"
إن ما وصل إليه حال الإنسانيَّة في هذا التَّوقيت من مسيرة الحضارة البشريَّة- وبالذَّات ما نجده في وطننا وأمتنا- يستوجب العمل على إعادة الإسلام إلى واقع الحياة، بكلِّ ما يحمله من منظومة أخلاقيَّةٍ وقيميَّة، وأيضًا بما يحمله من حلولٍ فعَّالة لمختلف مشكلاتِ الحياةِ الإنسانيَّةِ العصريَّةِ.
ولعلَّ الأمَّةَ حاليًا أحوجُ ما تكون لتدعيم دورِ الفعل الإسلامي في حياتها؛ لمواجهة مختلف الأمراض التي تواجهها.. من استبدادٍ وقهرٍ وفقرٍ واستعمارٍ، وغير ذلك من صنوفِ الابتلاءات التي ما فتئت تتداعى على الأمَّة كما تتداعى الأكلةُ إلى قصعتها؛ بسببِ حالةِ الضعف والوهن الحضاري الذي تعيشه الأمة الإسلاميَّة في الوقتِ الراهن.
وفي هذا الإطار فإن تفعيل دور الإسلام الذي يُعيد للأمَّةِ رونقَها الحضاريَّ يجب أنْ يتماشَى مع طبيعة الإسلام ذاته، وهي الشمولية التي تستوجب دعم دور الدِّين بقيمه في الميادين المختلفة.. السِّياسيَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والأخلاقيَّة، وغيرها في حياة الفرد والمجتمع، ولعل هذا هو السبيل الوحيد لإصلاح الوضع الراهن ممَّا وصلَ إليه ولكي تعود خير أمَّة.
لكي تعود خير أمَّةقال تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمْ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمْ الْفَاسِقُونَ (110)﴾ (آل عمران)، والشَّرط الإلهي المكين في هذا الأمر- أنْ تعود خير أُمَّة- هو الإيمان والأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر.
وفي هذا فإنَّ منهجَ التَّغيير والإصلاح في الإسلامِ- والذي يدعو إليه الإخوان المسلمون- يقوم على الأسس التي جاءت بها المصادرُ الأصيلة للشَّريعة الإسلاميَّة، وهي القرآن الكريم وصحيح السُّنَّة النَّبويَّة الشريفة، وفي هذا أخبرنا القرآن الكريم بأنَّ التَّوجيه الإلهي للرَّسول الكريم محمد- صلى الله عليه وسلم- يقول: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ (النحل125) ﴿وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)﴾ (النَّحل).
أي أنَّ منهج الدَّعوة إلى الله تعالى ومنهج الإصلاح الذي ندعو إليه يقوم على مجموعةٍ من الأسس، على رأسها سلميَّة المنهج في الدَّعوة والخطاب مع الآخر، وضرورة أنْ يترافق الصَّبرُ والتقوى مع الإيمان والعمل الصالح، مع وضعِ الأملِ في الله تعالى في شأن المخاض النهائي لهذا الجهد، وهذا المنهج هو بمثابة ضرورة وواجب الوقت للإنقاذ في ظلِّ هذه الأوضاع.
صيرورة التغيير
لقد باتت الحاجة ماسَّةً إلى التَّغيير والإصلاح على أساسِ المنهج الإلهي، وفي هذا فإنَّ السُّنَنَ التي وضعها اللهُ- عزَّ وجلَّ- تعتمد على مجموعةٍ من الأُطُرِ والقناعات، أهمها أنَّ الأمل الحقيقي في التَّغيير والإصلاح يأتي عن طريق الشعوب ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ (الرعد: من الآية 11) ولا يأتي كمنحة ربانية دون جهدٍ أو فعلٍ حقيقيٍّ من جانب الشُّعوب ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ (العنكبوت: 69).
هذا المنهج يضع أبناء الأمَّة أمام مسئوليَّاتهم الجسيمة، فمهمَّة التَّصدي للتَّحديات الرَّاهنة في الدَّاخل والخارج تستَوجِب أنْ يكون المسلمون مُوحَّدين، مُستَعيديِن لعافيتهم وثقتهم في أنفسهم، مع القدرة على استردادِ كافَّةِ الحقوق، والمشاركة في صنع القرار الذي يتجاوز القرار السِّياسي والاقتصادي والاجتماعي في مستواه الأوَّلي البسيط إلى قرار المصير.. مصير الوطنِ والأمَّة.
وفي هذا يجب الالتفات إلى حقيقةٍ مهمَّةٍ، وهي أنَّ الإيمان القلبي وحده لا يكفي، فالإيمان في الأساس هو ما وقرَ في القلبِ وصدَّقه العمل؛ أي أنَّ "تفعيل" منظومة العقيدة والأخلاق والتواصي بالحق إنَّما هو السَّبيل الوحيد لإحداثِ أيِّ تَقَدُّمٍ، مع الصبر على الابتلاءِ والمحنِ، أيًّا ما كان الثَّمن المدفوع، وعدم الانحراف عن الطريق القويم مهما كانت الضغوط.
والتَّاريخ في هذا مليءٌ بالنماذج المشرِّفة التي تحفزنا على المزيد من البذلِ والفعلِ والعطاءِ، فإبراهيم- صلى الله عليه وسلم- ابتُلِيَ في أهله وولده، فجزاه اللهُ خيرَ الجزاء، وموسى وعيسى ومحمد- عليهم جميعًا أفضل الصلاة وأجل التَّسليم- مارسوا الأدوار الحضارية والإنسانية التي خلقهم الله تعالى واصطنعهم لأجلها.
ولنا في صحابة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أسوة وقدوة.. فها هو عليٌّ بن أبي طالب- كرَّم الله وجهه- أول فدائي في الإسلام ينام مكان الرسول- صلى الله عليه وسلم- وهو يعلم أنَّ قريشًا كلها خرجت تطلبه.
وها هو أبو دجانة- رضي الله عنه- لا يزال دون رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في أُحُد حتى استُشهد وفي جسده عشرات السِّهام.
وجعفر الطَّيَّار، الذي ظل يحمل اللواء في مؤتة حتى استُشهد، ولم يتركها وجسده يتمزَّق بفعلِ ضربات الأعداء، إلا أنَّه لم يَهِن، وظل حاملاً الراية حتى رحلت روحه المطمئنةِ إلى بارئها عزَّ وجل.
وفي تاريخنا المُعاصر الكثير والكثير من الرموز التي تشرف بكونها قد ماتت في سبيلِ هذا الدِّين، وفي سبيل رفعةِ هذه الأمَّة، وقد قدَّم الإخوان المسلمون عبر العقود الثمانية الماضية أبلغَ الرَّموز في التَّضحية والفداء، ولنا في قافلة الشهداء بدءًا من الإمام الشَّهيد المؤسس حسن البنا، ومرورًا بشهداء حرب فلسطين وشهداء الإصلاح في مصر والعالم العربي والإسلامي، وحتى أحمد ياسين و عبد العزيز الرنتيسي، وغيرهم ممَّن قدَّموا أرواحهم فداءً لهذه الأمَّة.. النموذج الحسن، سواء ضد الاستبداد والعبودية أو ضد الاستعمار والغزو، أيًّا كانت هويَّتُه، عاملين بقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)﴾ (البقرة).
هذه الرموز عبر تاريخ الأمَّة الطويل تخبرنا أنَّه مهما كانت التضحيات فيجب على كلِّ مصريٍّ وعربيٍّ ومسلمٍ أنْ يضطلع بواجبه في أيِّ مكانٍ كان فيه لإحْدَاثِ التَّغيير والإصلاح المنشودَيْن في مواجهة أعداء الأمَّة والتَّاريخ.. الاستبداد والاستعمار والجهل والبطش ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35)﴾ (المائدة) ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ (آل عمران: 200).
وصلَّى الله على سيدنا محمد النبي الأمي، وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.
أضف تعليقك