رسالة سابقة من الأستاذ محمد مهدي عاكف المرشد العام السابع للإخوان المسلمين
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد..
فلا شكَّ في قسوةِ الواقع ومرارتِه، وشدةِ وطأته؛ ففي الداخل تعاني الشعوبُ عمومًا من فسادِ الأنظمة الحاكمة واستبدادِها، ويعاني الدعاةُ خصوصًا شتَّى ألوان الحرب والكيد والقمع والبطش، فتُوَجَّه إليهم الاتهاماتُ الباطلة، وتُنصَب لهم المحاكماتُ الجائرةُ، وتُنتَهك حرماتُهم ويُرَوَّع أهلُهم، وتقيَّد حركتُهم وحريتُهم، وتصادَر ممتلكاتُهم وأموالُهم، وتُعطَّل مصالحُهم وأعمالُهم!!
وأما في الخارج فتُحاك المؤامراتُ، وتُرسَم المخططاتُ، وتُصاغ المشروعاتُ، وتُفرَض الأجنداتُ، وذلك بقصدِ الهيمنةِ علينا، واحتلالِ أرضِنا، وتدنيسِ مقدساتِنا، ونهْبِ خيراتِنا، وتمزيقِ وحدتِنا، وتعويقِ نهضتِنا، وكسْرِ إرادتِنا، كما نرى في فلسطين والعراق وأفغانستان والصومال والسودان ولبنان، وغيرها من بلاد الإسلام.
وأمام هذه المشاهد القاتمة والأوضاع البائسة، نُهِيبُ بالأمة عمومًا- وبالإخوان خصوصًا- ألا ينساقوا مع الإحباط واليأس، وألا يركنوا إلى الهوان والعجز، ولنذكر جميعًا قولَ ربِّنا عز وجل: ﴿وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ* إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ (آل عمران: 139-140)، وقول حبيبنا وقدوتنا- صلى الله عليه وسلم- عند مواجهته الخصومَ أو مقارعته الخطوبَ: "يا مالك يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين"، وهذا ما نتزوَّد به- والحمد لله- في كل ركعة من ركعات الصلاة.
أيها الإخوان المسلمون، وأيها الناس أجمعون.. خذوا لهذا الواقع أهبَّته، وأعدوا له عدَّته؛ بالأخذ بالأسباب التي يتطلبها، وبالواجبات التي يفرضها، ومنها:
* قوة الصلة بالله
فلا ملك إلا ملكه، ولا أمر إلا أمره، ولا حكم إلا حكمه، ولا إله غيره، ولا رب سواه ﴿مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا﴾ (هود: من الآية 56) ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ (يس: 82)، وكل ما يصبو إليه عباده الصالحون المجاهدون مدَّخَرٌ في خزائن كرمه وفضله؛ فالتوفيق منه وحده ﴿وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾ (هود: من الآية 88)، والعون منه وحده ﴿قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾ (الأنبياء: 112)، والتثبيت منه وحده ﴿وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً﴾ (الإسراء: 74)، والنصرة منه وحده ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ﴾ (غافر: 51).
فالتمسوا هذا كله وغيره وغيره- مما ترجون وتحبون أيها الإخوان المسلمون- من الله وحده؛ بقوة الصلة به، وحسن التوكل عليه، واذكروا هنا توجيهَ رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "تعرَّفْ إلى الله في الرخاء يعرفْك في الشدة"، فلنتعرف إليه بإخلاصِ عبادتِه، ودوامِ طاعتِه، وامتثالِ أمرِه، واجتنابِ نهيِه، وكثرةِ ذكرِه، ومصاحبةِ كتابِه، ومكابدةِ الليالي، وإنارةِ الأسحارِ بالركعات والسجدات والدعوات والدمعات، وما أشدَّ وعْي صلاح الدين- رحمه الله- وما أعرفَه بسنن النصر والهزيمة؛ حيث كان يتفقَّد خيام الجند في ظلمة الليل، ويوقظ النِّيَام عن التهجُّد والمناجاة، محذِّرًا إياهم بقوله: "من مثلكم نؤتى!".
* التسلح بالمعرفة
فلا بدَّ لكل إنسان عاقل راشد مِن أن يتسلَّح بالمعرفة، ويتزوَّد بالثقافة؛ حتى يكونَ تصورُه للأحداث والقضايا صحيحًا، وحكمُه عليها صائبًا، وتصرفُه حيالَها مناسبًا، ويَقوَى الإقبالُ على المعرفة أكثر في حق الإنسان المسلم؛ لأنه يعلم أن أولَ كلمةٍ نزلت في القرآن العظيم ﴿اقْرَأْ﴾، ثم تلاها ما يرشد القراءة، ويصوِّب وجهتَها؛ ليكون فيها للبشرية النفعُ والصلاحُ والبناءُ والعمرانُ، وذلك في قوله تعالى ﴿بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ (العلق: من الآية 1)، ثم ذكرت كلمات الوحي الأولى بعد القراءة وسيلةَ التعلم والمعرفة الثانية، وهي الكتابة، وذلك في قوله تعالى: ﴿اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ* الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ* عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ (العلق: 3- 5)، ولأن المسلم يقرأ أيضًا قوله تعالى: ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ (طه: من الآية 114)، ويقرأ دعاء النبي- صلى الله عليه وسلم- الذي ترجم هذا التوجيه الرباني: "اللّهُمَّ انْفَعْنِي بِمَا عَلَّمْتَنِي، وَعَلِّمْنِي مَا يَنْفَعُنِي، وَزِدْنِي عِلْمًا، وَالْحَمْدُ لِلّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَأَعُوذُ بِاللّهِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ" (سنن ابن ماجة عن أبي هريرة).
ويفطن المسلم كذلك لمغزى نصيحته- صلى الله عليه وسلم- لأبي ذر: "يا أبا ذر، لأن تغدوَ فتعلم آيةً من كتاب الله خيرٌ لك من أن تصلي مائة ركعة، ولأن تغدو فتعلم بابًا من العلم عُمِل به أو لم يُعمل به خيرٌ لك من أن تصلي ألف ركعة" (سنن ابن ماجة عن أبي ذر)، ومعرفة حكمة بعض أسلافنا الصالحين.. "رحم الله امرأً عرف زمانه فاستقامت طريقته".
فإذا كان هذا شأن أي مسلم مع المعرفة والثقافة؛ فأنتم أيها الإخوان أَولى بهذا، وأنتم تواجهون كل يوم مختلف الأفكار والآراء، والنظريات والفلسفات، في شتى النواحي والمجالات، فأكثِروا أيها الإخوان من المطالعة في الكتب والإصدارات والصحف والمجلات، وأحسِنوا المتابعة لما يُبَثُّ في القنوات الفضائية والشبكات والإذاعات؛ لتواكبوا الأحداث والتطورات، وتكونوا على مستوى ما تحملون من أمانات ورسالات.
* المسئولية وعلوّ الهمة
فلْتمتلئ القلوبُ بالشعور المؤرِّق بالمسئولية عن ديننا ودعوتنا وأمتنا.. هذا الشعور الذي رأيناه في موقف الصدِّيق- رضي الله عنه- حين امتنع بعضُ الأعراب عن دفع الزكاة؛ فقال كلمته الرائعة: "قد انقطع الوحي وتمَّ الدين، أينقُص الدين وأنا حيٌّ، أينقص الدين وأنا حيٌّ"، والذي لمسناه كذلك في حال صلاح الدين- رحمه الله- وهو من أشدِّ الناس اتباعًا للسنة، ومع هذا ما كانت نفسه تطاوعه أن يبتسم في أعقاب دعاء ركوب الدابة، ولما سُئل عن السبب قال كلمته الهائلة: "كيف أضحك و الأقصى أسير"، فليسمع الهازلون المتبلِّدون.
وهذا الشعور القوي بالمسئولية هو الذي يفجِّر في النفس الهمَّةَ العاليةَ، والعزيمة الماضية، التي يهون أمامها كل صعب، ويخفُّ كل ثقيل، ويقترب كل بعيد.
أرأيتم حال الصحابة قبيل بدر، حين أفلتت العير وكان النفير، وسرى في الخيال بريق السيوف، وفي العين لون الدماء، وفي الأنف رائحة الموت، لقد تحدَّث المقداد بن عمرو بلسان المهاجرين؛ فكان من بين ما قال: "والذي بعثك بالحق لو سِرْتَ بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه"، وتحدث سعد بن معاذ بلسان الأنصار، فأقسم أيضًا قائلاً: "والذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضتَّه لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد".
لقد كانت هذه الهمم العالية الوقودَ الذي حرَّك الجيل الأول الفذّ الفريد؛ ليخوض المعركة تلو المعركة، ويقطع المرحلة بعد المرحلة، ويحقق الإنجاز بعد الإنجاز، حتى تغيَّر- في أمدٍ وجيزٍ- حالُ الإسلام والمسلمين، من الاستخفاء والوجل إلى المجاهدة والاعتزاز، ومن الضعف والقلة إلى القوة والكثرة، ومن المهانة والاستذلال إلى المهابة والتمكين، ولمثل هذا فليعمل العاملون، وليشمِّر الجادُّون، فلن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
* الإيجابية
وهي التي تدفع صاحبها إلى المبادرة بجلبِ المصلحة لغيره- فردًا كان أو جماعةً- ودرءِ المفسدة عنه، وإن لم يقع الأمر في نطاق الواجب الشرعي.. انظروا إلى الحباب بن المنذر- رضي الله عنه- وقد رأى الموقع الذي اختاره النبي صلى الله عليه وسلم، متسائلاً في أدب وفي صراحة أيضًا: يا رسول الله، أمنزل أنزلكه الله- عز وجل- فليس لنا أن نتقدَّم عليه أو نتأخر، أم هي الحرب والرأي والمكيدة؟! فأجابه صلى الله عليه وسلم: "بل هي الحرب والرأي والمكيدة"، فقال الحباب بلا مواربة: فليس هذا بالمنزل، وإنما ننزل عند أدنى ماء من القوم، فنبني عليه حوضًا، ثم نغوِّر سائر الآبار، فنشرب ولا يشربون، ونسقي ولا يسقون، فينزل النبي- صلى الله عليه وسلم- على هذا الرأي، ويكون أحد أسباب النصر الحاسم في تلك المعركة الفاصلة.
وانظروا إلى عمر- رضي الله عنه- وهو يقترح الإثخان في أسرى بدر بلا هوَادة؛ حتى يكونوا عبرةً لكل من تسوِّل له نفسُه الاجتراء على هذا الدين أو مناوشة المسلمين؛ فينزل الوحي ليسدِّدَ رأيَه، ويقرَّ موقفَه ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ (الأنفال: 67)، وانظروا إليه وهو يقترح على الخليفة أبي بكر أن يجمع القرآن بعد أن استحرَّ القتل في قرَّاء القرآن وحفظته في اليمامة أثناء قتال مسيلمة الكذاب، وما زال بالصدِّيق حتى انشرح صدرُه للأمر، وكان رأيًا ميمونًا، تحقَّق به وعدُ الله بحفظ كتابه الخالد ووحيه الخاتم.
فليحرص كل منكم- أيها الإخوان- أن ينسِج على هذا المنوال، وأن يكون على هذا الحال، فبذلك يعزُّ دينكم، وتنتصر دعوتكم، وتنهض أمتكم.
* التواصل مع المجتمع
ما أوسع الساحة التي يستهدفها الإسلام العظيم!! وما أبعد الأفق الذي يتطلع إليه!! إنه يستهدف الأرض كل الأرض، ويخاطب الناس كل الناس.. اقرأوا قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ (الأنبياء: 107) وقوله تعالى ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا﴾ (سبأ: من الآية 28)، وتدبَّروا قوله- صلى الله عليه وسلم-: "بُعِثْتُ لكل أحمر وأصفر"، فلا بد لكل من يتصدَّى لخدمة هذا الدين وحمل هذه الدعوة أن يُجيد التواصل والتفاعل مع الآخرين على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم.
ولكم في رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الأسوةُ الحسنةُ، فقد كان معروفًا محبوبًا للقاصي والداني من عشيرته وقومه، وكانوا يُقرُّون بسداد رأيه، وحسن خلقه في المناسبات المختلفة؛ فها هم يرتضونه حكَمًا بينهم عند تنازعهم في وضع الحجر الأسود، بعد تجديد بناء الكعبة، قائلين: هذا الصادق.. رضينا، ثم نزلوا على حكمه طائعين، وها هم أيضًا يؤكدون شهادتهم له بالصدق والأمانة في أول لقاء حاشد معهم، بعد أن أُمِر بالجهر بالدعوة، وذلك حين سألهم: "أرأيتم لو أني أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم، أكنتم مصدقيَّ؟!"، فأجابوه من فورهم: نعم، ما جربنا عليك كذبًا قط.. وهذه خديجة- رضي الله عنها- تُقسم له بعد أن رأت ما كان به عند أول عهده بالوحي "والله لن يخزيك الله أبدًا" ثم تبرِّر ذلك بما حَبَاه الله تعالى من مؤهِّلات النجاة والسلامة؛ فتقول "إنك لتصل الرحم، وتقري الضيف، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق".
فليخرج كل منكم أيها الإخوان من حالِ التقوقع المشين، والسلبية البغيضة، والخجل الذميم، وليَعِشْ كلٌّ منكم مع الناس متواصلاً متفاعلاً مؤثِّرًا مغيِّرًا، وخاصةً في هذه المرحلة؛ حيث أقبل الناس عليكم في الانتخابات المختلفة، ومنحوكم ثقتَهم، ووضعوا الأمانة على كواهلكم، وفوَّضوكم للتحدث بلسانهم، والمطالبة بحقوقهم والدفاع عن مصالحهم، فكونوا عند حسن الظن بكم، وأنتم لذلك أهلٌ، نحسبكم كذلك، والله حسيبكم، ولا نزكي على الله أحدًا، وهو حسبنا وولينا ونعم الوكيل.
وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي، وعلى آله وصحبه وسلم
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
أضف تعليقك