بقلم: د. فتحي الشوك
كان الخبر صادما، وقد يكون متوقّعا بالنظر إلى التسريبات الّتي روّجت لمقتله وسوابق الجهات المضطلعة والمتّهمة بالقيام بالجريمة، لكن ما كان غير متوقّع هو قيامهم بها بهذا الشّكل المفضوح وبشكل تجعل أصابع الاتّهام تتّجه حصريّا إليهم، بلطجة وسلوك عصابات وغدر يطال الأستاذ جمال خاشقجي الّذي ذهب بقدميه إلى عشّ الدّبابير ظنّا منه بأنّها قنصلية كأيّ قنصلية لبلد محترم يحترم مواطنيه ويحميهم ويقضي لهم حاجاتهم، قصدها ليستخرج ورقة لإتمام زواجه، ليفرح فإذا به يقتل ويختفي إلى الأبد. فبأيّ ذنب قتل جمال ولماذا يستهدف القبح كلّ جمال؟
الأستاذ جمال خاشقجي النّصوح الصّادق:
ولد جمال أحمد خاشقجي في13 أكتوبر1958 بالمدينة المنوّرة وهو من عائلة عريقة، أتمّ مراحل تعليمه ليعمل صحفيّا، كتب في عديد الصّحف المحلّية السّعودية والعربيّة ثمّ العالمية وكان مراسلا صحفيا للعديد من القنوات التلفازية، عمل كمستشار إعلامي للأمير تركي الفيصل منذ سنة2004 كما ترأّس فريق تحرير جريدة الوطن السّعودية سنة2007، تمكّن في 10 أكتوبر 2017 من مغادرة السّعودية مع بدء حملة الاعتقالات العشوائية الّتي طالت الجميع ليختار الولايات المتّحدة الأمريكية لتكون منفاه الاختياري حيث نشط هناك كصحفي وصار له عمودا قارا في صحيفة واشنطن بوست حتّى أنّها ولمكانته وتضامنا معه خصّصت افتتاحيتها يوم الجمعة الماضي لتغطية اختفائه المثير للرّيبة وجعلت العمود المخصّص له مساحة بيضاء بدالا من مقاله الدّوري.
الأستاذ جمال كان كاتبا متميّزا أصدر ثلاث كتب وهي "علاقات حرجة: السّعودية بعد11 سبتمبر"، "ربيع العرب زمن الإخوان المسلمين" و"احتلال السّوق السّعودي". كتب العديد من المقالات في الصّحف العالمية وشارك في العديد من المنتديات وكان له حضورا إعلاميا بارزا ومميّزا ولم يستثمر ذلك في مهاجمة النظّام السّعودي مباشرة بل طالما أعلن انّه ليس معارضا للنّظام وكان يرفض قطعيا وصفه بالمنشقّ السّعودي ويصف نفسه بأنّه محبّ وناصح وهو من أعلن كم من مرّة عن بيعته للملك ولوليّ عهده وأنّه لا يستهدف هدم المؤسّسة بل إصلاحها لتكون أفضل وأقوي وقادرة على الاستمرار وسط التّهديدات الّتي تحيط بها وكان يحسن الظنّ بما يعلن من إصلاحات رغم تشكيك الجميع فيها باعتبارها كلمة حقّ أريد بها باطلا.
المشكلة أنّ الأستاذ جمال كان يفكّر ويشغّل عقله ليقدح من رأسه وكانت له آراؤه واجتهاداته الّتي تخالف نسبيا من نصّب نفسه وصيّا على الآخرين، أسلوبه الرّاقي جدّا لم يرق للنّظام كما لم يعجب معارضيه الّذين يعتقدون بانّ النّظام السّعودي مفسد فاسد، لا يُصلح ولا يَصلح ولا يرجى منه خيرا، كان صبورا، ذو نفس طويل، متسامحا إلى حدّ بعيد، يزرع الأمل في زمن اشتدّ فيه اليأس.
لغز اختفاء خاشقجي:
في يوم الثلاثاء2 اكتوبر2018 دخل الأستاذ جمال خاشقجي مقرّ القنصليّة السّعودية بإسطنبول تاركا خطيبته التركية في الخارج لتنتظره ساعات ولم يخرج لتبتدئ الشّكوك تراود الجميع، وكانّ ثقبا أسودا ابتلعه، كاميرات المراقبة وثّقت دخوله ولا وجود لدليل على خروجه لتنطلق تحقيقات السّلطات التركية الّتي أقامت طوقا أمنيا حول القنصلية لتستنتج أخيرا أنّ جمال اغتيل داخل قنصلية بلده وأنّ من قام بذلك فريق متكوّن من 15 فردا بينهم مسؤولون سعوديون دخلوا تركيا عبر طائرتين خاصّتين لينفّذا المهمّة القذرة الّتي أوكلت إليهم ويعودوا في نفس اليوم من حيث أتوا.
أيّ ثمن قبضه ترامب؟
من المعلوم أنّ ارتكاب جرم بمثل هذه الحماقة لا يمكن أن يتمّ دون ضوء أخضر أمريكي وقد يكون كتنفيس وتحويل لكمّ المذلّة والمهانة الّتي كالها ترامب للسّعودية وملكها طيلة أسبوعين، إذ كانت فقرة الإذلال قارّة في كلّ اجتماعاته الانتخابية الأخيرة وكان يمعن في الإذلال إلى حدّ السّادية مطالبا إيّاها بالدّفع مقابل الحماية والتّواجد وقد كان لافتا ما نشرته صحيفة واشنطن بوست منذ يومين إذ نقلت ما كشفه الرّئيس ترامب عن فحوى مكالمته الهاتفية الأخيرة مع الملك سلمان بن عبد العزيز الّذي طلب منه مساعدة الولايات المتّحدة الأمريكية في حملة عسكرية سرّية للغاية.
فما كان من ترامب الّذي رفض الكشف عن تفاصيل الحملة المطلوبة إلاّ أن أبلغه بانّ هذا الأمر سيكون مكلّفا للغاية وإنّ السّعودية عليها أن تدفع مبلغ أربعة مليارات دولار للحصول على مساعدة الولايات المتّحدة. فهل تكون هذه الحملة العسكرية السرّية للغاية هي ما تمّ من عمليّة اغتيال الأستاذ جمال خاشقجي؟ حملة عسكرية سرّية لأجل رجل واحد لا يملك سوى قلمه؟ أيّ رجل هذا وأيّ أشباه رجال هم؟
ليس الأمر مستغربا أن تدفع السّعودية وأن يقبض راعي البقر ترامب فأربع مليارات دولار تكفي لكي يسمح ترامب بذلك، خصوصا وأنّ الأمر يخصّ صحفيّا في الواشنطن بوست الّتي لا يكنّ لها الودّ. وتزداد الأمور غموضا مع خبر أخر تناقلته وسائل الإعلام العالمية وهو اختفاء رئيس الانتربول؟ توالت خلال الأسبوع المنقضي إهانات ترامب المذلّة للسّعودية وملكها سلمان، ثلاثة تجمّعات انتخابية في أسبوع واحد كانت فقرة الجلد والإذلال متواجدة بشكل قار وبنسق تصاعدي ليقوم ولي العهد محمّد بن سلمان، بعد صمت مهين بالردّ قائلا: "أحبّ العمل مع الرّئيس ترامب" وليجيب حول ما أثير من تساؤلات حول اختفاء خاشقجي بأنّ السّلطات التركية بإمكانها تفتيش مبنى القنصلية والتثبت من وجوده داخلها أم لا وهو ما فسّر بأنّ عمليّة التّصفية قد تمّت.
فبأيّ ذنب قتل جمال؟
إذا ما كان صوت العقل والحكمة والاعتدال، من يصف نفسه بأنّه ليس بمعارض، مصيره الاغتيال فكيف يكون الأمر مع بقيّة المعارضين وكلّ صوت مخالف يغرّد خارج السّرب ولا يسبّح بحمد الملك؟ و كيف باع ترامب إنسانا لجا إلى بلد اعتقد أنّ فيه ملك لا يظلم أحدا مقابل تلك الدّولارات؟ أيّ نفاق هذا لمن يدّعي نشر الدّيمقراطية ويدافع عن الحرّيات وحقوق الإنسان؟ وكيف سيقع التّعامل مع دولة قروسطية أعادت محاكم التفتيش، يقودها أرعن هو أقرب إلى رئيس عصابة من مسؤول على دولة محورية في حجم ومكانة المملكة السّعودية، تكاثرت حماقاته وتراكمت أخطاؤه وأدخل كلّ المنطقة في نفق مظلم وجعلها على صفيح ساخن لأجل هوس اعتلاء العرش؟
وكيف ستتعامل السّلطات التركية مع هذا الحدث الجلل الّذي يعتبر انتهاكا صارخا لسيادتها وهي من صارت قبلة المظلومين والمستضعفين؟ تركيا سبق وإن ردّت بقوّة على استفزازات ترامب وعاملته بالمثل.. فكيف مع أذنابه وتابعيه؟ رحم الله الأستاذ جمال خاشقجي واسكنه فسيح جنانه ورزق أهله وذويه جميل الصّبر والسّلوان، نحتسبه عند الله من الشّهداء، شهيد الحقّ والحرّية والكلمة.
أضف تعليقك