إن من المعلوم عند كل مسلم أن لله - تعالى - أن يُقسِم بما شاء مِن مخلوقاته، وأنه لا يُقسِم إلا بعظيم، وكلما تكرَّر القسم بشيء دلَّ على أهميته، ولو تدبَّرنا قوله تعالى: ﴿ وَالْفَجْرِ ﴾ [الفجر: 1]، وقوله - عز وجل -: ﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى ﴾ [الليل: 1، 2]، وقوله سبحانه: ﴿ وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى ﴾ [الضحى: 1، 2]، لوجَدْنا أنها أجزاء الوقت.
ثم تدبَّر أيضًا قوله تعالى: ﴿ وَالْعَصْرِ ﴾ [العصر: 1] تُدركْ أنه أقسم بالزمان كلِّه، وما هذا إلا لأهميته، وهذه الأهمية مصدرُها أن الوقت هو الزمن الذي تقع فيه الأعمال، وهذه الأعمال (خيرها وشرها) هي التي يُقدِّمها البشر؛ لينالوا بها جزاء الخالق.
إذا عرَفنا ذلك، تبيَّن لنا أهمية الوقت؛ فهو في الحقيقة حياتُنا على هذه الأرض؛ لكي نُقدِّم فيها ما يوصِّلنا إلى الغاية التي لأجلِها خُلقْنا، فالوقت هو الحياة، والوقت نعمة وأمانة يُضيِّعها كثير من الناس، يُضيِّعونها على أنفسِهم، وعلى أمَّتِهم؛ قال - صلى الله عليه وسلم -: ((نِعمتان مَغبون فيهما كثير من الناس: الصحَّة، والفراغ))[1].
وللوقت خاصية، وهي أنه إذا ذهب لم يَرجِع! وهذا يَدفعنا لاستغلال كل لحظة منه؛ كان ابن عمر - رضي الله عنهما - يقول: "إذا أمسيت فلا تَنتظِر الصَّباح، وإذا أصبحتَ فلا تَنتظِر المساء، وخذْ مِن صحَّتك لمرضِك، ومِن حياتك لمَوتك"[2]، ويقول الحسن البصري - رضي الله عنه -: "يا بن آدم، نهارُك ضيفُك؛ فأحسن إليه؛ فإنك إن أحسنتَ إليه ارتحَل بحمدِك، وإن أسأت إليه ارتحل بذمِّك، وكذلك ليلُك"، وقال أيضًا: "ابنَ آدم، إنما أنت أيام، فإذا ذهب يومٌ ذهب بعضُك، ويُوشِك إذا ذهب البعض أن يذهب الكل، وأنت تعلمُ فاعملْ".
إذا تنبَّه العاقل، وتذكَّر ما مضى من أيام عمره، فإنه يندم على الساعات التي قضاها في اللهو والبطالة، وأشد ساعات الندم حين يُقبِل المرء بصحيفة عمله، فيَرى فيها الخزْيَ والعار؛ قال تعالى: ﴿ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي ﴾ [الفجر: 23 - 24]، وقال تعالى: ﴿ أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ ﴾ [الزمر: 56]، فالعاقل مَن ندِم اليومَ حيث يَنفعه الندم، واستقبل لحَظات عمره، فعمَّرها قبل أن يأتي اليوم الذي لا ينفع فيه الندم.
أسباب ضياع الوقت:
1- عدم وضوح الغاية:
إن عدم وضوح الغاية، أو عدم وجودها، أو عدم التَّفكير فيها، أو عدم الانشِغال بها والسعي لأجلِها - هو أعظم سبب لضياع الأوقات.
فمَن حدَّد هدفًا يَسعى إليه - أيًّا كان الهدف - فإنه لن يُضيِّع وقته، فالطالب الذي يُريد التفوُّق لا يُكثِر اللهْو، ومَن يُريد الزواج يَسعى لتحصيله بأسبابه، ومَن يُريد أن يكون تاجِرًا يسعى لتحصيل ذلك، وهكذا، فحريٌّ بمن غايته الوصول إلى الجنَّة ونعيمها أن يسعى جادًّا لتحصيلها؛ قال تعالى: ﴿ سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ﴾ [الحديد: 21]، وفي الحديث: ((مَن خاف أدلج، ومَن أدلجَ بلَغ المَنزِل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة))[3]، وكل هدف نبيل يسعى المؤمن لتحصيله فيه إصلاح دينه، أو دنياه، أو أمته، إذا أخلص فيه النية، ووافق فيه الطريقة الشرعية، فإنه طريق لتحصيل تلك الغاية.
2- مرافقة الزملاء غير الجادِّين الذي يُضيِّعون الأوقات سُدى، ولا يستفيدون مِن عُمرِهم وشبابهم.
3- الفراغ، وعدم معرفة ما ينبغي أن يشغل به وقته.
4- كثرة المُلهيات والمُغريات، فإذا انشغَل بها المؤمن، ضاعَ وقتُه، وخَسِرَ عُمره.
5- قلَّة الأعوان - من الأهل والأصحاب - على استغلال الوقت.
من صور الحرص على الاستفادة من الوقت:
1- قال عبدالرحمن بن حاتم الرازي عن حاله مع أبيه (أبي حاتم محمد بن إدريس الرازي): ربما كان يأكل فأقرأ عليه، ويَمشي وأقرأ عليه، ويدخل الخلاء وأقرأ عليه، ويدخل البيت لطلب شيء وأقرأ عليه.
2- قال عبدالرحمن بن أبي حاتم: كنا بمِصرَ سبعة أشهر، لم نأكل فيها مرَقة، كل نَهارِنا مُقسَّم لمَجالس الشيوخ، وبالليل النَّسْخ والمُقابَلة، قال: فأتَينا يومًا أنا ورفيق لي شيخًا، فقالوا: هو عليل، فرأينا في طريقنا سمَكًا أعجبَنا، فاشتريناه، فلما صِرنا إلى البيت حضَر وقت مجلس، فلم يُمكنَّا إصلاحُه ومضَينا إلى المجلس، فلم نزل حتى أتى عليه ثلاثة أيام وكاد أن يتغيَّر، فأكلناه نِيئًا، لم يكن لنا فراغ أن نُعطيه مَن يَشويه، ثم قال: لا يُستطاع العِلم براحة الجسد.
3- الإمام أبو زكريا بن شرف الدين النووي يموت في الخامسة والأربعين من عمره ويترك من المؤلَّفات ما قسَّموه بعد موته على أيام حياته، فكان نصيب كل يوم أربع كراريس، فكيف تمَّ له ذلك؟ اسمع منه يُجبْك: "وبقيت سنتَين لم أضعْ جنبي على الأرض!"؛ يَنام على الكتاب، ونحن ننام على نهاية الإرسال[4].
4- الإمام أبو الفرج بن الجوزي يقول: "كتبتُ بإصبعي هاتَين ألفَي مُجلَّد، وتاب على يدي مائة ألْف، وأسلم على يَدي عشرون ألف يهودي ونصراني"، وقال أيضًا: "لو أني قد طالَعتُ عشرين ألف مجلد، كان أكثر، وأنا بعدُ في الطلب"، وقال عنه صاحب كتاب "الكُنى والألقاب": "إن برايَة أقلام ابن الجوزي التي كتَب بها الحديث جُمعتْ فحصَل منها شيء كثير، فأوصى أن يُسخَّن منها الماء الذي يُغسَّل به بعد موته، ففُعِل ذلك، فكفَتْ وفضل منها"[5].
5- كان بشْر بن الحارث الحافي كثيرًا ما يقول: "أمس قد مات، واليوم في النزْع، وغد لم يولد؛ فبادر بالأعمال الصالحة"، وكان يقول أيضًا: "الليل والنهار حَثيثان يَعملان فيك؛ فاعمل فيهما".
أضف تعليقك