بقلم..عامر شماخ
قد أصاب الفاروق عمر-رضى الله عنه- لما أرَّخ للإسلام بالهجرة. ولو اجتمع عباقرة المسلمين اليوم ما اخـتاروا غير هـذا الحـــدث تأريخًا لدينهم؛ إذ رغـم ما مرت به الدعوة من أحداث على مدى ثلاثة عشر عامًا فى مكة فإن الهجرة تبقى هى الأعظم؛ لما سيأتى بيانه.
قد يقول قائل: كان الأولى بدء التاريخ بيوم نزول الوحى، أو يوم صار الإسلام اثنين: محمدًا وخديجة، أو يوم صار عشرة، أو يوم إعلان الدعوة والجهر بالدين الجديد، أو يوم حصار الشعب إلخ. أقول: كل هذه الأيام تستحق بالفعل أن تشكل تأريخًا، خصوصًا يوم نزل الوحى، لكنها -جميعًا- لا تحقق ما كان فى هذا اليوم الأغر، يوم الهجرة، من حيث ما جاء بعده، ومن حيث شهوده، ومن حيث مقدماته، ومن حيث توقيته، ومن حيث علو الإسلام وظهوره.. فيوم الهجرة -بلا منازع- هو البداية الحقيقية للدين الخاتم، والذى -على أثرها- عمت هدايته نصف شعوب الدنيا فى زمن لا يزيد على خمسة عقود.
لقد خرج المسلمون المستضعفون فى هذا اليوم من قبضة الشرك والمشركين، ومن ضيق مكة إلى سعة يثرب وما حولها، ومن أجواء الضعف والتضييق والعذاب إلى رحاب السلامة والعز والأمان. وكان نجاح النبى وصحبه فى الخروج من قريتهم انتصارًا للإسلام، ولو قضى المشركون عليهم يومها لانقضت دعوة الإسلام، لكن الله غالب على أمره، قد جعل لكل شىء قدرًا..
إنك لن تجد جماعة عانت فى سبيل دينها كما عانت جماعة النبى -صلى الله عليه وسلم- فى مكة، فكانت الهجرة فرجًا ومخرجًا، ونصرًا وفضلاً على المسلمين، ولو سُئل أحدهم -رضوان الله عليهم- يومها: أى أيامك أفضل؟ لقال: يوم أسلمت، وهذا اليوم. لقد كان المسلمون الجدد فى شوق إلى نشر الدين والدعاية له، بل ممارسة شعائره وأركانه على الوجه الكامل. لكن كيف السبيل إلى ذلك ومكة حاشدة بالأصنام؛ أصنام الحـجر والـبـشر؛ فـكـان هـذا الـيــوم الـذى لا ينسى؛ من أجل ذلك لا تعجب إذ قرأت أنهم تركوا الدار وما حوت من أهل ومال فما انشغلوا بشىء منها، وما أهمهم صاعًا ولا متاعًا، إنما كان همهم الأكبر: الفرار بالدين فى موكب النبى الكريم -صلى الله عليه وسلم-.
لقد قفزت الدعوة فى هذا اليوم من قبو القبلية الضيقة المقيتة إلى فضاء الإنسانية الواسع، فحق لها أن تتخده تأريخًا عالميًا، وقد صار للإسلام صوتٌ مسموع، وأنصارٌ وجوار، وقوة تحميه؛ فلم يعد هناك حصار أو إجبار، بل صارت آذان الدنيا مفتوحة لسماع آيات الوحى الكريم، والبداية يثرب. من ثم صارت مكة وما جرى فيها صفحة مطوية، وورقة ساقطة، وصارت دروبها وآثارها وشخوصها خبرًا من الماضى؛ إذ اليوم يبدأ محمد والذين معه فى تأسيس دولته، وفى إرساء دعوته. اليوم بدأ الناس يدخلون فى دين الله أفواجًا..
ما إن اقترب النبى -صلى الله عليه وسلم- من المدينة حتى شرع فى بناء أول مسجد فى الإسلام. أليس هذا كافيًا لأن يؤرخ للمسلمين بهذه الساعة وهذا البناء وقد حُرموه منذ البعثة؟ ثم تم تدشين ثانى المساجد حال وصوله –صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة ومن قبل أن يستريح من مشقة السفر؛ ذلك أن المسجد فى الإسلام هو بيت الله فى الأرض، ومنارة الدين، وجامعه وجامعته، ودار ندوته، ومحكمته، ومقر جيشه. والـيوم -فقط- يبنى المسلمون مسجدهم، ويعلنون دعوتهم ويقولون للدنيا بأسرها: (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا) [الجن: 18] لا نعبد إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون.
ومن هذا اليوم تشكّل المجتمع المسلم، وبدأت ملامح دولته؛ ذلك المجتمع المثالى الفاضل، القائم على التعاون على البر والتقوى، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، والتكافل والتساند والمرحمة، المجتمع الحضارى البرىء من القبلية والعصبية والجاهلية، ينصهر فيه الأبيض مع الأسود، والعربى مع الأعجمى، والسيد مع العبد، وقد ضمت اجتماعاته الأوس والخزرج، أعداء الأمس، والمـهـاجـرى والأنـصـارى رغم ما بينهما من اختلاف العادات والأعراف، والـفقير والـغـنـى، لا فرق بــــين رجـل وآخــر إلا بالتقوى. وعلى هذا المجتمع شيدت أركان الدولة التى استوعبت المشرك والمسلم واليهودى والنصرانى، قائمة على أسس العدالة الإنسانية.. وما بين سنة أو اثنتين إلا وكان لتلك الدولة جيش واجهت به الطغاة من مشركى مكة.. وما هى إلا سنوات أربع إلا وكان لهذا الجيش صولة مع الروم على حدود الجزيرة الشمالية.
وإذا كان المسلمون اليوم يحتفلون بالتاريخ الميلادى وينسون تاريخهم الهجرى؛ فإنا نذكّرهم بفضل هذا اليوم، وأن من تعظيم شعائر الله الوقوف على دروس الهجرة واستلهام عبرها، والاقتداء بصاحبها صلوات الله عليه.. وكل عام وأنتم بخير.
أضف تعليقك