وائل قنديل
حسنًا، مرّ قانون إعدام الصحافة المصرية، وصار واقعًا كئيبًا، بعد أن صدّق عليه عبد الفتاح السيسي، من دون مقاومةٍ تذكر، اللهم بعض همهات وأنين خجول داخل مجموعات تواصلٍ مغلقة في أوساط الصحافيين.
سال الحبر غزيرًا في بيان كارثية مواد القانون الذي يجرّد الجماعة الصحافية المصرية من مكسبها التاريخي والوحيد، الذي حصلت عليه بعد نضالٍ مريرٍ واعتصامات مفتوحة داخل مبنى النقابة العريق، في وسط القاهرة، حين كان بيت الصحافيين مبنى من طابقين، وحديقة تتسع لغراس حرية وطن بأسره.
كان ذلك في العام 1995، حينما تداعى الصحافيون للتصدّي للقانون 93 لسنة 1995 الذي أصدره نظام حسني مبارك، واشتهر باسم "قانون حماية الفساد" الذي يحاول قطع خطوط الاتصال بين الصحافة والمواطن، فكانت معركةً طويلة، دفاعًا عن حرية المجتمع وحقه في التعبير والتنفس، فانضمت إلى الاعتصام غالبية النقابات المهنية الأخرى، المعنيّة بالحريات والحقوق، كما شارك مواطنون عاديون، إدراكًا بأن خنق الصحافة بتشريعاتٍ مغلظةٍ هو اعتداء على حق المواطن في البوح والشكوى والتظلم.
لم ينفضّ اعتصام الجماعة الوطنية في نقابة الصحافيين إلا بتراجع نظام مبارك، وإلغاء القانون المعيب، وصدور قانون بديل هو القانون 96 الذي نصّت المواد السبعة الأولى منه على قدسية حرية الصحافة، التي هي حرية للمجتمع: (مادة 1 – الصحافة سلطة شعبية تمارس رسالتها بحريةٍ مسؤولة في خدمة المجتمع، تعبيرا عن مختلف اتجاهات الرأي العام، وإسهاما في تكوينه وتوجيهه من خلال حرية التعبير وممارسة النقد ونشر الأنباء، وذلك كله في إطار المقوّمات الأساسية للمجتمع وأحكام الدستور والقانون).
وشدّدت المواد التالية على أن فرض الرقابة على الصحف أو مصادرتها أو تعطيل صدورها محظورٌ بشكل قاطع، وأيضًا "لا يجوز أن يكون الرأي الذي يصدر عن الصحفي أو المعلومات الصحيحة التي ينشرها سببا للمساس بأمنه، كما لا يجوز إجباره علي إفشاء مصادر معلوماته، وذلك كله في حدود القانون".
كانت هناك جماعة صحافية ووطنية، وكانت هناك نقابةٌ محترمة، تحولت فيما بعد إلى مبنىً زجاجي متعدّد الطوابق، أنشأته القوات المسلحة، في زمن إبراهيم نافع ومكرم محمد أحمد، وفقد الصحافيون حديقتهم، وزهور حديقتهم، وانتقلوا إلى "برج الجيش".
أتذكّر في تلك الأيام نضال النقابي العريق، جلال عارف، الذي بذل محاولات عديدة للظفر بموقع النقيب، ولم يستطع الوصول إليه، إلا محمولًا فوق أكتاف الذين خاضوا معركة القانون 96، وأتلفت الآن بحثًا عن جلال عارف، بينما المهنة تُذبح بقانون السيسي، فأجده هناك في زاوية يومية في صحيفة الأخبار يكتب كما يكتب أحمد موسى، وكرم جبر ومكرم محمد أحمد، عن "عظمة إنجازات الزعيم، ومؤامرات الجماعة الإرهابية".. تلك الجماعة التي كان يطرق أبوابها في كل جولةٍ انتخابيةٍ في نقابة الصحافيين.
لم يعد أحد من أسود المهنة التي هرمت قادرًا على الزئير ضد الانتهاك اليومي لحقوق المحبوسين احتياطيًا، من سياسسين وأكاديميين وصحافيين، تتسابق الجرائد على تأليف حكاياتٍ وصياغة سيناريوهاتٍ عن أقوالهم في التحقيقات.
الشاهد أنه لم تبق ثمّة مقاومة، أو قدرة، أو حتى رغبة، في الاحتجاج لدى الجماعة الصحافية، ضد إجراءات تدمير المهنة.. حتى زفرات الأنين (الفردية) لم تعد تقوى على الخروج إلى العلن، فلا أحد يجرؤ على الغضب، وإن غضب فليس ثمّة من ينشر صيحة غضب أو اعتراض.
بات الأمر يشبه كثيرًا سيكولوجية تلقي الأنباء الروتينية عن تجديد حبس النشطاء والسياسيين.. يأتي بعض الأنين السارح على مواقع التواصل الاجتماعي ممتزجًا ببعض الدعاء، على استحياء، على الظالمين، فيما تتواصل حالة التصنيف الفئوي والأيديولوجي حاكمةً لمنطق التعاطف، ليبقى كل تيار منشغلًا بمعتقليه، ليتحوّل فعل التعاطف ذاته من فرصةٍ لتأسيس مشروع إنساني مشترك، إلى مادةٍ صالحةٍ لإشعال مزيد من حرائق الاستقطاب، ليتواصل حبس مصر خلف أسوار الخوف والعجز والبلادة، والتبعية لكل من يساهم في تمويل هذا العار الحضاري.
أضف تعليقك