بقلم..وائل قنديل
واقعياً، على الأرض، تبدو كفة عبد الفتاح السيسي الأرجح، في مواجهة كل رافضي مشروعه القائم على الاستيلاء على الحكم بالقوة، قوة السلاح، والقدرة على خداع الجماهير، مستعيناً بمن وثقت فيهم الجماهير، فاعتبرتهم رموزاً وقادة لحركتها.
لدى السيسي الدعم المالي الذي لم يتوقف عن التدفق، منذ اللحظة الأولى لاغتياله الثورة المصرية ومخرجاتها، ولديه الإسناد الدبلوماسي من أشرس الحريصين على وأد قدرة المواطن المصري العربي على الحلم بالتغيير وبالديمقراطية وبالحرية والكرامة الإنسانية والوطنية.
لديه، أيضاً، ضمير عالمي معطوب، يسلك عكس ما يدعو إليه من قيم، وبصفقة سلاحٍ واحدةٍ، يغض الطرف عن جرائم الطغاة المستجدّين، ويلاحق كل من ينشط ضد طغيانهم، وبيده هراوة الأمن وترسانة الإعلام الجرثومية، وبطش الهيمنة العسكرية على كل شيء، من حليب الأطفال إلى الإسمنت المسلح.
هذه الصورة تجدها بشكل أوضح في معادلة الكيان الصهيوني وفلسطين، إذ تتمتّع إسرائيل بالرعاية الكاملة من المجتمع الدولي، وبالعروض المذهلة المقدّمة من عرب الهرولة الذين صاروا أقرب إلى الرواية الصهيونية للصراع، وأبعد عن الرواية الحقيقية، رواية التاريخ والجغرافيا والضمير.. ولدى الصهاينة أيضاً التفوّق الشامل في موازين القوة العسكرية والقدرة الاقتصادية، والهيمنة الإعلامية.
ماذا لدينا، والحال كذلك، نحن المؤمنين بالحق الفلسطيني، المتشبثّين بحلم الربيع العربي، سوى القوة الأخلاقية بمواجهة هذه الترسانة الهائلة من أسلحة الأمر الواقع بيد فيلق الأوغاد؟
لا شيء لدينا سوى الثبات على المقاومة، بالرواية الصحيحة والإيمان المطلق بالحق والعدل، بصرف النظر عن موازين القوة، وحسابات الواقع الذي يحاولون فرضه بالترويع والإرهاب وغطرسة التفوق المادي.. لدينا فقط الجوهر الأخلاقي ومحاولة الحفاظ على الذاكرة أمام الرواية الملفقة الكاذبة.
من هنا، تبدو غرابة الاستسلام لمنطق نظام عبد الفتاح السيسي لإدارة الصراع، فتكون الاستجابة للاستدراج إلى مناطق الإنجاز الاقتصادي والأداء السياسي، وكأن تلك، وحدها، هي ساحة النزال مع مختطفي الأوطان ومغتصبي الحكم، على الرغم من أن الخلاف الجذري يتمحور حول الدماء والمعاني والمبادئ الإنسانية والأخلاقية، لا على الأداء والأرباح والقيمة السوقية.
لا يزعج الطاغية أكثر من الاستمساك بالسردية الصحيحة للتاريخ وأحداثه، والتي تقول إن هذا نظامٌ مكتسبٌ لشرعية الأمر الواقع، من دون شرعية أخلاقية أو سياسية، وأنه، ومن يدعمونه، يحشدون كل طاقاتهم لمحو أي أثرٍ للشرعية القانونية التي صعدوا فوق عظامها وأشلائها.
من هنا يبدو بعيداً عن المنطق والتفكير العقلي السليم أن تصبح الشرعية الأولى، المهدورة اغتصاباً وإرهاباً، مثار سخريةٍ ممن يدّعون أنهم رافضون لسلطة عبد الفتاح السيسي، وتتفاقم حالة الابتعاد عن المنطق والتأسيس المبدئي للحكاية، عندما تجد نفراً ممن يتعيّشون على مناهضة الانقلاب يسقطون شرعية ما سبق، ويعتبرون التمسّك بها عقبةً في الطريق لإزالة سلطة الانقلاب غير الشرعية.
ولا يدهشك أكثر من أن يقال إن على الجميع العمل على استعادة المسار الديمقراطي الذي اغتاله الانقلاب، من دون التمسّك بقيمة الشرعية السياسية والأخلاقية للنظام، والرئيس، الذي جرى الانقلاب عليه.
هذا، بالضبط، يشبه محاولة إصلاح طائرة في الجو، عن طريق إلقاء قائدها وركّابها من النافذة، أو اعتبار قتل المرضى والأطباء وطواقم العمل وسيلةً مناسبةً، ومحترمة، للحفاظ على المستشفى.
يكرّرون القول إن الشرعية مبدأ وفكرة، وليست شخصاً، لكنهم يتجاهلون أن المبادئ والأفكار ليست ذرّات سابحة في فضاء التنظير والجدل، بل هي قيم تتمثّل وتتجسّد في أشخاص وبناء سياسي وحركة مرئية وملموسة على الأرض، وتجارب سياسية وإنسانية.
وكما أشرت سابقاً، فإن قائد حركة التنوير في ألمانيا وأوروبا، الفيلسوف إيمانويل كانط، وهو يبحث في “أنطولوجيا الوجود” يُعَرّف الفكرة بأنها المبدأ العقلي الذي يؤسّس وجود الأشياء، لكن ليس لها وجود مستقل عن الأشياء.
وكما لا يمكن الحديث عن شرعيةٍ من دون شرعيين، لا يمكن الكلام عن مسارٍ من دون سائرين، أو انقلابٍ من دون منقلبين، ذلك أن السيسي والعسكريين انقلبوا على نظام سياسي مدني، متحقّق على الأرض، ممثلاً في رئيس ومجالس منتخبة، فإذا كان يضايقك ذكر اسم الرئيس محمد مرسي مقروناً بالحديث عن شرعية مجهضة، فليس من حقّك، في هذه الحالة، أن تسمّي ما جرى انقلاباً عسكرياً، لأنه في الممارسة السياسية لم يتوصلوا بعد إلى اختراع اسمه “الانقلاب على اللاشيء”.
ليس هذا دفاعا عن حق رئيسٍ أسير، بل دفاعاً عن العقل والمنطق والضمير، بل عن العلم ذاته.
أضف تعليقك