فضيلة المرشد العام الأستاذ / مصطفي مشهور
مقدمة
إن المتأمل في هذا الكون، يجد أن لله سبحانه وتعالى سننا ثابتة، لا تتغير ولا تتبدل، والمؤمنون بالله هم الذين يؤمنون بهذه السنن ويعرفون أنها ماضية فيسيرون معها، ويوقنون أن منها ما جعله الله ابتلاء واختبارا وتمحيصا، ثم لهم بعد ذلك إن فازوا وصبروا الجزاء الأوفى ، إما التمكين في الدنيا وإما الثواب في الآخرة ، وإما هذا وذاك ، ابتلاء واختبارا ثم تمكينا ، كما يؤمنون بأن من اختصاص الحق سبحانه وتعالى الهيمنة والسيطرة على هذا الكون (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) .. آل عمران:26.
فليس لأحد من خلقه كائنا من كان أن ينازعه في أي صفة من صفاته ، فمن نازعه أخذه أخذ عزيز مقتدر ، فإذا طغى فرد قصمه الله ، وإذا طغت أمة وزعمت أنها مالكة الكون وقادرة على أمره ، محقها الله وأخزاها ، وردها إلى حقيقتها، قال تعالى:
(وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ) الأنبياء:11 .
هذه المقدمة لابد من الإيمان بها إيمانا يصل إلى درجة اليقين ، ولابد من مصاحبتها لنا ونحن نواجه ما ينزل بأمة الإسلام في جميع أنحاء العالم اليوم إنها تواجه أخطر مؤامرة وأعظم تحد في تاريخها كله ، هذه المؤامرة تستهدف القضاء على وجودها وكيانها ودينها ، وتاريخها وحضارتها ، والتاريخ يعيد نفسه ، وهو شاهد صدق ، وفيه عبرة ، لمن يعتبر ، وقد حدثنا أن المؤمنين في جميع العصور حلت بهم كوارث ، ونزلت بهم أحداث ، وأحاطت بهم المحن ، لكن الحق سبحانه وتعالى بإخلاصهم وثباتهم وتجردهم ، نجاهم وحفظهم وعصمهم ، والحق سبحانه وتعالى لا يعد كذبا ، ولا يخلف وعدا ، ولا يظلم أحدا ، ولا يعجزه شئ في الأرض ولا في السماء.
وإن الله سبحانه وتعالى أعطى هذه الأمة الوعد الحق بخلافة الأرض ودفع الظلم وإقامة العدل ، فقال سبحانه:
(وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) النور: 55 .
ومن الأحداث ذات الدلالة الهامة في أيامنا هذه حادثة أصحاب الأخدود البشعة ، وقد حدثت قبل الإسلام ، وكانت مؤامرة الطغاة على المؤمنين والمؤمنات دنيئة وخسيسة وموضوعها أن فئة من المؤمنين بالله المسالمين لغيرهم ، ابتلوا بأعداء طغاة حاولوا إكراههم على ترك عقيدتهم والردة عن دينهم، أو حرقهم أحياء، فاعتصموا بربهم ، وربط الله على قلوبهم وثبتهم، فما كان من المجرمين إلا أن نفذوا وعيدهم فشقوا الأخدود، وأشعلوا فيه النار ، وألقوا فيه بالمؤمنين والمؤمنات فماتوا جميعا حرقا ، وصورة هؤلاء المؤمنين وهم يلقون بأنفسهم في الأخدود وقد استعلوا بإيمانهم على كل باطل ، وبعقيدتهم المنتصرة على الحياة الدنيا صورة فذة عظيمة ، بل هي وسام شرف ، ومصدر عزة وفخار للأجيال المؤمنة كلها.
فتح الملفات وحفر الأخاديد
إن ما كان عند أعداء الإسلام في طي الكتمان سرا ، من حقد على الإسلام وأهله ومن البغضاء والكراهية ، أصبح اليوم معلنا وبكل صراحة على الملأ ، يقول الحق سبحانه مصورا حقيقة هذا الأمر: (قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ) آل عمران: من الآية118 .. فالإسلام أصبح عندهم دين الإرهاب ، يجب أن يطور ويعدل ويغير ويبدل ، والمسلمون أصبحوا مصدر الإرهاب والإزعاج والقلق ، ودماؤهم أصبحت مهدرة ، وحقوقهم ضائعة ، وكرامتهم تداس بالأقدام ، وكل مسلم مدان حتى تثبت براءته ، التي لا يعلم إلا الله متى تثبت؟
وهذه هي جماعة حقوق الإنسان تتهم الولايات المتحدة بمعاملة أسرى تنظيم القاعدة وغيرهم معاملة غير إنسانية لا تتفق مع المواثيق الدولية.
أما في أمريكا نفسها ، فالمحاكم العسكرية لمن جرى اعتقالهم بعد الأحداث الأخيرة ، من العرب والمسلمين لمجرد الاشتباه، وقد تم اعتقالهم بصورة وحشية همجية فالمنازل تهاجم بكل أنواع الأسلحة لمجرد الشك في أي شئ .
أما في أفغانستان فقد أصبحت مستعمرة للغرب ولأمريكا يمرحون فيها كما يشاءون بعد أن دمروا فيها كل شئ ، وحولوها إلى أشباح ومقابر وهرب أهلها إلى الجبال والكهوف وقتل من قتل وأسر من أسر ، أما مآسي كوسوفا والبوسنة والهرسك وكشمير المسلمة والشيشان ، قبل ذلك وبعده فالدماء الذكية تسيل ، والشيوخ يشردون ، والنساء والأطفال يقتلون ، والمقابر الجماعية لا حصر لها ، والأخدود منصوب للمسلمين.
أما قضية فلسطين والأقصى فقد شق اليهود لها "أخدودا" كبيرا وأوقدوا فيه النيران من سبعين عاما ، فالأمة كلها في محنة ونيران اليهود تلتهم كل شئ .. ويجب على حكام العرب والمسلمين أن يستقرئوا التاريخ ، ليعرفوا كيف أنقذت فلسطين من أيدي الغزاة أول مرة، لتنقذها مرة ثانية، إن قضية فلسطين هي قضية كل الأمة العربية والإسلامية ومسئوليتها ولابد من مبادرة الجميع لتحمل تبعات المعركة، ولابد من دعم الانتفاضة والعمل على استمرارها، والوقوف صفا واحدا، مع كل القوى الفاعلة ولابد من رفض التنازل أو التفريط في شبر واحد من هذا الوقف الإسلامي، وهو جميع أرض فلسطين المسلمة، ولابد من صيانة الأقصى وحمايته والدفاع عنه وعن كل المقدسات الإسلامية .
إننا نجد في عالمنا اليوم من يزعم لنفسه أنه القوة الوحيدة ، التي تهيمن على القارات الخمس وتدبر أمرها ، ومصيرها بيده ، وبأنه يحمل للعالم النظام العالمي الجديد ، وكأن العالم لم يكن له نظام قبل ذلك ، إن شعارات النظام العالمي الجديد شعارات جوفاء ، لا معنى لها ، ولا تحمل شكلا محددا ، شعارات فارغة من أي مضمون ، فالذي يهيمن على العالم ويحكمه ، هو الله وحده ، المتجبر ، الذي تفرد في كونه واختص بصفة العلو وبالسيطرة على هذا الكون ، وتسيير دفته .
جاء في الحديث القدسي:
(العظمة إزاري ، والكبرياء ردائي ، فمن نازعني فيهما أدخلته النار ولا أبالي) والمسلمون يرون أن هذا التعالي هو أكبر علامة على قرب نهاية أصحابه ، لأنه يناطح سنن الله في خلقه ، وليس ذلك لأحد من خلقه ، وقديما زعم فرعون أنه الأعلى وأنه مالك لهذا الكون ، فأخذه الله أخذ عزيز مقتدر ، يقول الحق سبحانه: (فكذب وعصى ثم أدبر يسعى فحشر فنادى فقال أنا ربكم الأعلى فأخذه الله نكال الآخرة والأولى إن في ذلك لعبرة لمن يخشى) .
وإن من سنن الله الماضية أن الظالم لا يفلت من قبضة الحق سبحانه ، قال تعالى: (وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ) القصص:58 ..
والله عز وجل يقسم في حادثة الأخدود بالسماء وبروجها وبيوم القيامة وما فيه من أهوال على أن سينتقم للمؤمنين من هؤلاء الطغاة ويعلن سبحانه لعنتهم وهلاكهم:
(إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ) البروج:12.
إن المعركة بين الحق والباطل ، ليست موجهة إلى أشخاص الدعاة ، بل هي موجهة إلى منهج الله الذي يجحده هؤلاء، يقول الحق سبحانه:
(فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ) الأنعام: من الآية33.
ومن هنا يعمل أصحاب الباطل على إسكات صوت الحق ، وتصفية البنية التحتية للمسلمين ، يعملون على تجفيف المنابع وتعديل الخطاب الديني وتكميم أفواه خطباء المساجد ، ولا يتردد في خطب المساجد آيات القرآن التي أنزلها الله رحمة للعالمين ، يريدون أن يسكت صوت الإسلام حتى ينساه المسلمون.
الأمل في نصر الله
إن الإسلام ليس تجارة قصيرة الأجل ، أما أن تربح ، أو تتخلى عنها إلى تجارة أخرى ، إن المؤمن وهو يحمل هذا الحق يجب عليه أن يوقن أنه يواجه العتاة الذين يملكون القوة والمال ، ويملكون أن يسحروا أعين الناس ، وأن يرهبوهم ، كما يجب على المؤمنين أن يوقنوا بأن موقفهم كثير التكاليف ، وأن من سبقنا في هذا الدرب كانوا بشرا مثلنا ، لكنهم وثقوا في وعد الله وآمنوا بأن النصر آت لا ريب فيه ، ولذلك كان أملهم في نصر الله ، وتمكين أهل الحق عميقا متمكنا من أقطار نفوسهم .
يقول الحق سبحانه:
(وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ، وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ) القصص:6،5 ..
لقد تدبروا سنن الله في الغابرين وفقهوا قوله تعالى: (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) يوسف: 110 .
إن مع العسر يسرا ، وإن الفرج مع الضيق ، وحين تستحكم الشدائد والكروب ، يأتي نصر الله ، فينجوا الذين يستحقون النجاة ، ويحل باس الله بالمجرمين ، وهذا وعد الله والله لا يخلف الميعاد: (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ) الروم:60 (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُر) القمر:45 .
أضف تعليقك