تشتعل سلطة عبد الفتاح السيسي جنوناً، كلما حلت ذكرى ذلك اليوم الذي أشعل فيه جنرال الانقلاب ناراً لا يزال المجتمع المصري كله يكتوي بها.
في السادس والعشرين من يوليو/ تموز، كان الجنرال يطلق أول دعوة رسمية إلى الانتحار الجماعى، والقفز في أتون حريق قومي شامل، حين دعا قائد الجيش الشعب إلى الخروج الكبير لتفويضه بمواجهة ما يسميه “العنف والإرهاب”، وهو في واقع الأمر كان يقصد الدفع بالجميع إلى حلبة الاقتتال الذاتي، كي يستتب له الحكم.
في ذلك اليوم، كانت مصر كلها تواجه أعنف اختبار للأخلاق والإنسانية والقيم الثورية التى تجلت فى يناير/ كانون الثاني 2011 وما تلاه، ولعبت الدور الأسوأ فيه مجموعات من المثقفين والسياسيين، حشدوا الناس للخروج من أجل تدشين نوعٍ بغيض من العنصرية المجتمعية، قسّمت مصر إلى شعبين، وتجلى الجنون في أغنيات وأناشيد ومقالات لتمجيد الخراب المستعجل، الممتد معنا.
كان لافتاً استخدام وصف “الشرفاء الأمناء” لمن سوف يلبّون دعوة الفريق إلى الانتحار، ما يعني أنه يعلن رسميا تقسيم المواطنين إلى نوعين: الأول شريف وأمين، ومعيار الشرف والأمانة هنا يتحدّد حسب المسافة من القائد العسكري، فمن يمنحه التفويض لمواجهة المعارضين له هو الشريف الأمين، ومن لا يفعل فهو من النوع الثانى، غير الشريف وغير الأمين، عدو الوطن، المنبوذ.
أعادت دعوة الفريق إلى الأذهان ذكرياتٍ مؤلمة، شهدتها مصر خلال عام 2011، حين لجأ المجلس العسكرى الحاكم أول مرة إلى استخدام مصطلح “المواطنين الشرفاء”، والذى جرى إشهاره فى وجه القوى الثورية فى مناسبات عديدة، سالت فيها دماء، وفقئت عيون وتعمقت جراح، بدءا من موقعة العباسية الأولى، مرورا بماسبيرو ومحمد محمود ومجلس الوزراء واستاد بورسعيد.
في ذلك الوقت، كان التلفزيون الرسمي المتعسكر يدعو، فى أحداث ماسبيرو، المصريين الشرفاء إلى النزول لحماية جيشهم من المتظاهرين الأقباط الأوغاد، بالطريقة ذاتها التى حرّض بها رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة، المشير حسين طنطاوي، الشعب على الشعب فى مجزرة بورسعيد، “حين قال هو الشعب ساكت عليهم ليه”، لتكتشف أن أحدث دعوة ليست غريبة عن سياق عام يقوم على اختطاف قطاعاتٍ من الشعب بعبارات تدغدغ غرائز الخوف والجوع، ثم إطلاقها على بقية الشعب، وصناعة حالة من العداء بينهما.
المفارقة المدهشة هنا أن من كانوا ضحايا هجمات “المواطنين الشرفاء” لبّوا الدعوة لكي يلعبوا دور الشرفاء، فى مواجهة من كانوا يحمون الميدان معهم فى منعطفاتٍ ثورية خطيرة، أهمها على الإطلاق موقعة الجمل، بل منهم من تقمّص شخصية “الشبّيح الليبرالي” وهتف “فوضناك” بالطريقة ذاتها التى قالوا بها لحسني مبارك “اخترناك”.
الآن، وبعد خمس سنوات، ينظر الجنرال حوله، فلا يجد تلك الجموع المستجيبة للانتحار، ويلمس تشقّقاً في ذلك الجدار العازل الذي أقامه، ليعزل به قطاعات هائلة من الشعب، فتنتابه لوثة الفزع من انفضاض ما تبقى من مفوضين بالقتل والخراب، فيكون الحل السهل والبليد، في الوقت ذاته، مزيداً من التخويف، ومزيداً من الفزاعات.
يكتشف السيسي ونظامه بعد خمس سنوات أن أكاذيبه لم تعد صالحةً للاستهلاك، فقد اختبر الناس كل الوعود والمقولات بأنفسهم، فلم يحصدوا إلا الخراب.. لا العنف والإرهاب المحتمل اختفيا، ولا الاستقرار جاء، فماذا يفعل والوضع كذلك؟.
ببلاهةٍ غريبة، يجري تغييراً في المعادلة، يقوم على الآتي: إذا كنت عاجزاً عن تسويق مزيد من أكاذيبك وأوهامك، بوصفها روايةً قابلةً للتصديق، فلا حلّ سوى أن تضمر النار في الرواية الأخرى، وتحوّل كل ما يقال ضدك إلى شائعاتٍ مغرضة، بعد أن أثبتت حواديت “خلايا المناخ التشاؤمي” التي اخترعها في العام الماضي فشلها، وبات الواقع أكثر وطأةً وبشاعةً من أي خيال مغرق في التشاؤم والسوداوية.
ولذلك كله، جرت عملية استدعاء”حرب الشائعات” عدواً بديلاً للإرهاب المحتمل (2013) والمناخ التشاؤمي (2017)، ويصبح إعلام التواصل الاجتماعي هدفاً لضربات السلطة، ليرفع الستار عن حقيقة دامغة: آلة إعلام السيسي أصابها العطب والتلف، فلم تعد تمتلك القدرة على إقناع أحد أو التأثير فيها، فيكون الحل هو الحرب على الإعلام الآخر، إعلام المواطن العادي.
إن دولةً ترتعد من سخرية “فيسبوك” و”تويتر”، وتعجز عن تحمل أغنية أو قصيدة مختلفة، ليست سوى خرابة محكومة بنوبة جنون سلطوية، بلغت حداً محزناً، يهبط معه العقل الحاكم إلى ما تحت مستوى اللوثة العقلية.
أضف تعليقك