وائل قنديل
من المفترض أن يكون التاريخ مرجعية الأمم للتعاطي مع الحاضر والانطلاق نحو المستقبل، لكنه في حياتنا العربية تحول إلى ملاذ آمن، للهروب والتفلت من استحقاقات اللحظة الحاضرة، وتبديد الطاقة في معارك مع الموتى، هرباً من مواجهة الأحياء من المستبدّين والطغاة.
هذا ما يحدث في يوم 23 يوليو/ تموز من كل عام، إذ تبدأ عملياتٌ حامية الوطيس، لفتح أبواب القبور والنبش فيها، وإخراج الجثث والذكريات للاشتباك معها، فيما يتمتع الحاضر، بقبحه ودمامته وانحطاطه، بالفرجة على الحروب العبثية مع الماضي البعيد.
بعد 66 عاماً من الحدث، لا يزال المصريون يتصارعون في توصيف ما جرى: ثورة أم انقلاب أم حركة؟ ومع كل عام يمر، تنحدر قيم وقواعد الاشتباك أكثر وأكثر، إلى الحد الذي باتت معه المطالبة بعودة الملكية المستوردة حلماً وطنياً، والحنين لعصر الاستعمار الأجنبي مسألة عادية يتم التعبير عنها، من دون خجل أو استحياء. ويذهب الاستقطاب الحاد بين مؤيدي "يوليو" ورافضيها إلى مراحل من العبث بالتاريخ والحقائق، وكأننا بصدد عملية انتحار جماعي على قارعة التاريخ، تغيب فيها قواعد النقد والتقييم، لتسود روح الكراهية المطلقة والإقصاء الكامل لمن يعتنق رأياً مختلفاً.
في مثل هذا الوقت من العام الماضي، قلت إنك لو اعتبرت "يوليو" انقلابا، فقد شارك فيه الضباط والإخوان المسلمين، ولو اعتبرتها ثورةً فهي ثورة الضباط و"الإخوان"، ولو كانت حركةً فهي حركة الضباط و"الإخوان"، وهناك عشرات من الوثائق والشهادات التاريخية التي تؤكد ذلك، من عسكريين وإسلاميين، من بينهم اللواء جمال حماد، والإخواني صلاح شادي.
وبعيداً عن موقفك من العسكر، فإن يوليو 1952 مشروع وطني جامع للتحرّر من الاستعمار والحكم الملكي، شارك فيها الجميع، والتف حولها الشعب كله، وسواء شئت أم أبيت: يظل محمد نجيب، ومن بعده جمال عبد الناصر، أول مصري يحكم مصر منذ زمن الفراعنة، كما يظل محمد مرسي أول رئيس مدني منتخب في تاريخ مصر.
وعلى ذكر الرئيس محمد مرسي، من المهم التذكير بشهادته الوحيدة، الموثّقة بالصوت والصورة، عندما وقف يخطب، رئيساً، في يوليو/ تموز 2012 احتفالاً بذكرى ثورة يوليو، حيث قال بالنص "في حياة الأمم، وفي دورات التاريخ، أيام هامة، تقف أمامها الشعوب لتستلهم منها دروسا لحياتها ومسارها في السياسة والاجتماع وفي النهضة والإبداع وفي النهضة والرقي. إنّ ثورة 23 يوليو 1952، كانت لحظةً فارقةً في تاريخ مصر المعاصر، وأسست الثورة الجمهورية الأولى التي دعمها الشعب، والتف حول قادتها وحول أهدافها الستة، والتي لخصت رغبة الشعب المصري في تأسيس حياة ديمقراطية سليمة، وفي استقلال القرار الوطني ودعم عدالة اجتماعية للخروج من الجهل والفقر والمرض، ومن استغلال رأس المال والإقطاع".
يضيف مرسي "كانت ثورة 23 يوليو، بأهدافها الوطنية، بدايةً لتمكين الشعب المصري من تقرير مصيره ودعم تحرّره، وليكون هو بحق مصدر السلطة وصاحب الشرعية، وقد خاضت الثورة المصرية معركتي الجلاء والاستقلال، وحاولت أن تقدّم نموذجاً في دعم حركات التحرر في العالمين، العربي والإسلامي، وأن ترسي مفهوما للعدالة الاجتماعية والتنمية المخططة وحشد الموارد من أجل مشروع وطني متكامل، ونجحت الثورة في بعض هذه الأهداف، وتعثرت في أهداف أخرى، خصوصا في ملف الديمقراطية والحريات، والتي تضاءلت مساحتها عبر الأنظمة المختلفة وتراجعت خطوات الأنظمة لإقامة حياة ديمقراطية حقيقية، قائمة على سيادة الشعب وتمكين الأمة، لتكون مصدر السلطات، وفشلت في الثلاثين سنة الأخيرة (الإشارة هنا إلى مرحلة ما بعد عبد الناصر والسادات) التجربة الديمقراطية بفعل التزوير والاستبداد الذي أنتج، في نهاية المطاف، فسادا استنزف كثيرا من موارد مصر وإمكاناتها، وكان لابد للشعب المصري من تصحيح المسار وتصويب الأخطاء، فثار ثورته الثانية في 25 يناير 2011 ليعيد الأمر إلى نصابه".
لم يقل الرئيس مرسي، القادم من جماعة الإخوان المسلمين إن ثورة يوليو كانت مؤامرةً نفذها مجموعة من عملاء المخابرات الأجنبية، كما يذهب بعضهم مستسلماً لحالة من الكراهية المستعصية، تجعله لا يرى في تاريخ أمته إلا تلالاً من العار تتراكم فوق بعضها، كما لم يقل الرئيس مرسي إن يوليو الثورة كانت انقلاباً شريراً، بإطلاق، بل سمّاها ثورة الشعب المصري، وتحدث عن نجاحاتها وإخفاقاتها، بموضوعية، ومن دون غرقٍ في شلالات الانتقام من التاريخ.
أيضاً، ليس مطلوباً ولا معقولاً أن يرى أحد في تجربة يوليو/ تموز 1952 الخير المطلق والبياض الناصع، إذ كانت مثل أي تجربة إنسانية، متضمنة الخير والشر والنجاح والفشل والإصلاح والإفساد، لكنها في نهاية المطاف تبقى إنجازاً للأمة المصرية، في حركتها نحو الأفضل، حتى وإن كانت المآلات سيئة.
أضف تعليقك