بقلم: خليل العناني
ليست الهوية معطىً جوهرانيا ثابتا، وإنما هي بنية اجتماعية متغيرة ومتطورة، تخضع لعوامل كثيرة، يتداخل فيها السياسي والثقافي والديني والاجتماعي. وتمثل المحطات والأحداث والأزمات التاريخية نقاطا فاصلةً ومهمةً في تشكل الهويات الوطنية والقومية وتطوّرها.
ومنذ بداية الأزمة الخليجية الراهنة، وحيث يمثل حصار دولة قطر وشعبها أحد التجليات الرئيسية لهذه الأزمة، فإنه يمكن الحديث، بقدرٍ من الثقة، عن إرهاصات بنية هوياتية جديدة في قطر، تتقاطع محاورها بين الداخل والخارج.
ليست هذه البنية الهوياتية وليدة اليوم، وإنما هي استمرار وتتويج لصيرورة تاريخية، بدأت قبل عقدين على الأقل، وذلك عندما اتخذت قطر خطواتٍ مهمةً وجريئةً باتجاه تحقيق مزيد من الاستقلال والسيادة لقرارها الداخلي، وتنشيط دورها الخارجي، وذلك على عكس ما كانت عليه الحال منذ الاستقلال عن بريطانيا أوائل السبعينات من القرن الماضي.
ومن يراقب تطور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في قطر خلال العقد الماضي يكتشف، بسهولة، أننا إزاء ما يمكن أن يُطلق عليه "النموذج القطري" في التنمية.
وهو نموذج يجمع ما بين تحقيق تنمية داخلية مستدامة، قوامها اقتصاد المعرفة، وحيوية خارجية فيما يمكن أن تسمى دبلوماسية "إطفاء الحرائق"، من خلال الوساطة القطرية في نزاعات إقليمية عديدة، وهو نموذج يستند إلى عدة أسس، اقتصادياً وتعليمياً وثقافياً وتنموياً وإعلامياً ورياضياً.
الأكثر من ذلك أن هذا النموذج، وهذه ربما إحدى نقاط قوته، نجح في تحقيق المعادلة الصعبة التي عجزت عنها دول الجوار الخليجي، والتي تجمع ما بين الأصالة والمعاصرة، والمحافظة الاجتماعية والانفتاح التدريجي المعتدل، وما بين الانتماء الوطني والشعور القومي العروبي.
نجحت هذه الخلطة السحرية في جذب الأنظار إلى قطر خلال العقد الماضي، لكن ذلك أيضا أحدث "غيرة" سياسية، وحساسية إقليمية مع بعض دول الجوار، خصوصا الإمارات والسعودية والبحرين، والتي فشلت في تحقيق مثل هذا النموذج التنموي المتوازن.
وذلك إما بسبب الانفلات الهوياتي، كما الحال مع الأولى، أو بسبب الجمود والانغلاق مع الثانية (وذلك قبل التحولات الراديكالية التي بدأت مع صعود نجم ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان)، أو بسبب التبعية المطلقة في حالة الثالثة.
ويمكن القول، بأريحيةٍ، إن هذا النموذج يمثل أحد المحرّكات الرئيسية غير المعلنة للأزمة الخليجية. ولعل من بين المكاسب العديدة غير المقصودة للأزمة الخليجية لقطر توفيرها غطاءً شرعيا لظهور هوية قطرية متمايزة، تستكمل هذا النموذج التنموي، وتضعه في إطاره الذاتي، بعيداً عن أية محاولات لاختطافه وتقليده.
بكلمات أخرى، ساهمت الأزمة الخليجية، من حيث لا يقصد من أطلقوها، وعلى عكس ما أرادوا، في تأكيد هذه الهوية الصاعدة في قطر، خصوصا في ظل شعور قطريين كثيرين بأنهم يواجهون خطراً وجودياً، لا يستهدف نظامهم السياسي فحسب، وإنما يستهدفهم هم أنفسهم، ويستهدف نموذجهم المعيشي والتنموي، ويسعى إلى الانقضاض عليه.
وإذا كانت الهوية لا تعرّف إلا بالعلاقة مع "الآخر"، وأحياناً في مواجهته، فقد أظهرت الأزمة الخليجية هذا "الآخر"، وساهمت في تكريس التمايز الهوياتي لدى قطريين كثيرين عن بقية جيرانهم.
لا يعني هذا بالطبع انسلاخ القطريين من روابط القربى والدم والقبيلة مع بقية مجتمعات الخليج، وإنما يعني بروز المكون الوطني في هويتهم السياسية، وذلك في مقابل المكونات الأخرى، وهي عمليةٌ حدثت في بلدان أخرى عديدة، ونجم عنها استقلال حقيقي، مكّن من بناء دولةٍ حديثةٍ ذات بنيةٍ هوياتيةٍ صلبةٍ ومتماسكة.
* د. خليل العناني أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية بجامعة جونزهوبكنز الأميركية.
أضف تعليقك