في مفتتح فترته الثانية بعد انقلابه العسكري، وسط فائض كلام وبتعبيرات غامضة من خلال مفاهيم بائسة، بدأ ذلك الخطاب الذي افتتح به مدته الرئاسية الثانية أمام مجلس نوابٍ اصطنعه على عينه من خلال أجهزة المخابرات وأمن الدولة، فخرج مؤسسةً مشوهةً تشكل مداساً في أقدام المستبد، افتتح ذلك بحلف يمينٍ يكذّبه كل حرف فيه، فهو لا يرعى مصالح الوطن، ولا يحترم القانون والدستور، وهو لا يحافظ على الوطن ولا سلامة أراضيه. إنه يغدر ولا يوفي بعهد، يخون ولا يراعي ذمة، ويبيع الأرض، ويفرّط في موارد الوطن بدعاوى متعدّدة، إنه الخائن لكل كلمة في قسمه، الحانث فيه، وهو الحلّاف المهين، كثير القسم، لكنه في كل مرة يكذب ويخون ويتحرّى الكذب، كذاب أشر وخائن للعهد.
بعد أن حلف هذا القسم، وخطب خطبته التي سنرصد فيها ما قال، وبعض ما لم يقل، ففي تحليل الخطاب من مثل هذا المنقلب، والذي يأتي كلامه متناقضا، فإن ما يقوله في جملة ينفيه في أخرى. هذه الكلمات الغادرة والفاجرة والخبيثة تحتاج تحليلا خاصا، تحليل المسكوت عنه وقراءة ما بين السطور وكشف المستور. هذا طبيعة الكلام الغادر، عندما يأتي الكلام بمعانيه الغامضة، ومراميه الخبيثة ومغازيه الخائنة، ذلك أنه لا يعني ما يقول، ويقول ما لا يعني، ويفعل شيئا ثالثا، يعبّر به عن ثبات سياساته الفاجرة، واستراتيجياته الفادحة، فتراه يرفع أسعار ضروريات الناس، ويفرض ضرائب جديدة في شكل الإتاوات وسياسات الجباية، فيلوّح بارتفاع سلعة ضرورية، فلا تجد شيئا ينخفض إلا قيمة الإنسان في مصر، الإنسان بين معدم ومعتقل ومرشح لإعدام ومطارد، يروّع الناس ويعتقلهم من بيوتهم تارةً في وضح النهار، وتارة أخرى في جوف الليل، لا يحسن إلا ذلك، أفعاله تكذبه، وفائض كلامه يلعنه وكأنه يرد عليه في صدى صوت، كذاب أشر: كذاب أشر.
هذا في افتتاح فترته الثانية. نشهد إفطارين في شهر رمضان، إفطار الأسرة الذي ينظمه
"حينما يتحدث السيسي عن الصحة والتعليم فذلك لن يكون إلا الخراب المقيم"
زبانيته، فيدبجون كل ما من شأنه يخرج إفطارا يسوده النفاق، يتحدث فيه أنه رحمةً بالناس، لن يرفع أسعار سلع معينة، حتى لا يعذبهم، فهو فقط لا يريد تعذيب الناس في رمضان. هكذا يمنّ على هذا الشعب المظلوم بأنه يرحمه ولا يعذبه، فسيؤجل التعذيب إلى ما بعد شهر رمضان. وعلى الرغم من ذلك، فإنه، في الوقت نفسه، قد رفع أسعار المياه والصرف الصحي بنسبةٍ تقارب النصف، وزاد من ضرائب تحت مسمى تنمية موارد الدولة، ضمن سياسةٍ جبائية قميئة، تمول زيادات مرتبات زبانيته وترف مواكبه.. يفعل هذا كله ثم يدّعي أنه لا يريد عذاب الناس فقط فيما تبقى من أيام رمضان.
مع هذا الإفطار كان هناك إفطار آخر لتجمّع القوى المدنية.. هكذا يسمون أنفسهم، فإذا به يسلط بلطجيته على مكان الإفطار في النادي السويسري الذي يحضره لفيفٌ من هؤلاء. وعلى الرغم من أن أحد الحاضرين في ذلك الإفطار قد أشار بنفسه إلى أنهم كانوا يفكرون في إخراج بيان صحافي، يستحسنون فيه المعاني التي وردت في خطابه، ويرجونه تنفيذها، أتى لهؤلاء الرد على تلك النيات بالسنج والعصي والأطباق الطائرة من بلطجيةٍ اقتحموا المكان وقلبوا الطعام، واستهدفوا كل شخص مدعو، وهم يهتفون بحياة عبد الفتاح السيسي، وتحيا مصر، واصفين إياهم بالخونة. كان ذلك ردا بلطجيا يرد به على نخبةٍ للأسف، تمكّن منها سوء التقدير وغباء التفسير، وتظن أنها يمكن أن تمارس السياسة في وطنٍ اغتصبت فيه السياسة وقتلت. وعلى الرغم من ذلك، يفضلون كلمتهم المعهودة "نحن نعمل تحت سقف النظام".
حتى لو تعاملت تحت سقفه، فإن النظام سيطلق عليك بلطجيته، ويفتح معهم حوارا بالسنج والضرب والاستهداف من كل مكان. إنه يفتح الحوار، ولكن في عرفه فتح الدماغ من غير كلام، حوار بلطجي فاشي من نوع جديد، يديره السيسي بأمنه وبلطجيته وزبانيته وإعلام إفكه. ومع ذلك، يظن بعض هؤلاء أنهم يمارسون السياسة، هل لم يعرف هؤلاء بعد معنى السياسة الفاشية التي تفشو في الوطن، والتي لا تستثني أحدا. لا تعرف لغة الكلام، بل لغة البلطجة. وبذلك كما في عرف المنقلب "يحيا السيسي" و"تحيا مصر".
يتحدث في خطابه عن مفاصل ثلاث: الأول إعادة تعريف الهوية. حينما يتحدث السيسي عن الهوية، عليك أن تتحسس وجودك، وتعرف أن ثوابتك التأسيسية في جماعتك الوطنية في خطر مقيم. إعادة تعريف الهوية في نظر السيسي، أقول ذلك صادقا، تعنى تفكيك ذلك الوطن، وطمس كل ثوابته الأساسية، وذاكرته التاريخية، وقيمه الدينية، وتفكيك منظومة تماسك هذا المجتمع ولُحمته، والتخلي عن الأرض والعرض، وعن ثوابت الأمن المصري والعربي، والوقوف في وجه كل عناصر مشاريع المقاومة، لأنه صار جزءا من هذه الخطة الأميركية الصهيونية، فيما تسمى صفقة القرن، فله دوره المخصوص، عبّر عنه عند اجتماعه الأول مع الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بأنه المطيع الأمين لكل ما يطلبه من مطالب تتعلق بصفقة القرن. تفكيك الهوية وصهينتها هي من مراده واستراتيجيته.
يتعلق المفصل الثاني بفكرة الآخر التي تحدّث عنها بخبث، ليروج فيها المقولات نفسها التي
"أصبحت أتخوف من كل أمر يهتم به السيسي، فهو يقلب الاهتمام إلى انتقام"
تتعلق بتقسيم هذا الشعب، في إطار تصنيف قميء، نحن وهُم، أنتم والآخر، ليفكك لحمة الوطن وجماعته الوطنية. يبدأ باستئصال ما أسماه الإرهاب المحتمل، ثم باستئصال كل ما يشير إلى معارضة محتملة. وبذلك يعمل على اتساع متوالية الآخر، ضمن سياساته المرعية بالاستئصال والاستبعاد، ومتوالية الآخر في إطار فكرة الولاء وعقلية القطيع للاستبداد والمستبد، وفي إطار استراتيجيته بفرّق تسُد إلى سياساتٍ أخرى، فلتضرب الجميع، فبعد أن اطمأن إلى استدراج الجميع إلى حالات استقطاب وصناعة كراهية، مستغلا عالم أحداث وأخطاء وقع فيها الجميع. للأسف، استدرج الجميع، فكل منهم لا يعدم أن يقف عند حدثٍ بعينه، يمكن أن يتكئ عليه، حتى يشمت في الآخر، ويبرر للمستبد ظلمه وفاشيته. وفي ظل هذه الفرقة الواضحة والفاضحة والفادحة، سنظل نتقاتل مع بعضنا بعضا، حتى ينسينا ذلك الوقوف في وجه عدونا وخصمنا، فنتقاتل مع بعضنا، ونخون بعضنا بعضا.
المفصل الثالث اهتمامه بالصحة والتعليم، فبعد أن تملص، في فترته السابقة، من كل التزاماته في باب الخدمات من صحة وتعليم، حتى قال "يعمل إيه التعليم في وطن ضائع"... أصبحت أتخوف من كل أمر يهتم به السيسي، فهو يقلب الاهتمام إلى انتقام. هكذا يفعل في كل شيء، فقد تحدث عن حنوه على شعبه، ثم قتله. وتحدث في خطاب نور عينه، فأظلم وظلم وتجبر. ومن هنا، حينما يتحدث السيسي عن الصحة والتعليم، فإن ذلك لن يكون إلا الخراب المقيم، وفق قاعدته الذهبية "هتدفع يعني هتدفع"، "وإللي ما معهوش ميلزموش". هذه خطته في الإصلاح. وكما كانت خطته في إصلاح الاقتصاد ستكون خطته في إصلاح الخدمات في الصحة والتعليم، "وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون".
أضف تعليقك