بقلم وائل قنديل
مازلت أتذكّر تلك الليلة جيداً، كانت الليلة الأولى في رحلة الحج، في العام 2003، وكان جاري في المخيم عجوزاً يمنياً تجاوز السبعين، ودار بيننا حوار سريع للتعارف، حين أخبرته أني صحافي مصري، أعمل في صحيفة "العربي" الناصرية. اكتسى صوته بالشجن، وحدثني عن جمال عبد الناصر وأحمد سعيد وثورة اليمن.
قال لي إن الراديو في اليمن، في تلك الأيام كان يعني أحمد سعيد و"صوت العرب". فقلت له إنني أعرف الأستاذ أحمد سعيد وبيننا صداقة، ويمكن أن أتصل به لتسلم عليه الآن، فاندهش الرجل ولم يصدّق، إلا بعد أن أعطيته الهاتف، وسمع صوت أحمد سعيد على الجانب الآخر، وتحدث معه، والدموع تبلّل صوته.
لم يتعرض أحد من الإعلاميين لظلم، مثل أحمد سعيد الذي كان مذيعاً متحققاً ومعروفاً قبل أن يظهر في الأفق السياسي المصري شخصٌ اسمه جمال عبد الناصر، وقبل وقوع حدث يوليو/ تموز 1952 الذي غير وجه الحياة في مصر والمنطقة العربية.
لم يكن أحمد سعيد صنيعة جمال عبد الناصر، كما لم يكن صانعاً للنكسة التي قصمت ظهر عبد الناصر، وأطاحت أحمد سعيد من"صوت العرب"، وشاءت إرادة الله أن تختار ليلة ذكرى النكسة لتكون موعد وفاة "مذيع النكسة" المفترى عليه.
في نهاية تسعينيات القرن الماضى، روى لي أحمد سعيد قصته مع عبد الناصر والإذاعة والنكسة في حوار طويل في صحيفة "العربي" الصادرة عن الحزب الناصري في ذلك الوقت، وهو الحوار الذي كان محل استهجان من بعض الناصريبن الذين لا يطيقون سماع اسم أحمد سعيد، وكأنه المسؤول عن النكسة، أو كان قائداً للجيوش العربية التي انكسرت.
عن بيانات النكسة، قال لي أحمد سعيد، إنه في حالة الحروب ليس بإمكان المذيع أن يضيف أو ينتقص حرفاً واحداً مما يرد إليه من رئاسة أركان الجيش، حتى لو كان موقناً بأن هذه البيانات كاذبة، وإن القانون الحاكم لهذه المسألة يعاقب من يمتنع عن إذاعة البيانات، أو يبدّل فيها، بالإعدام رمياً بالرصاص.
في أعقاب النكسة، وبعد سقوط الأكاذيب، كان أحمد سعيد يقدّم تعليقاً يومياً على الأحداث، عبر"صوت العرب" التي أسسها وأدارها وتولى رئاستها، حتى بات جهاز الراديو يعرف باسمه واسمها، وكانت لهجته أشدّ وأكبر من قدرة سلطة عبد الناصر على احتمالها، إذ كان يرى في النكسة هزيمة نظام، لا هزيمة جيش، وجاهر بذلك، بصوته، عبر موجات الأثير، حتى أنهم فرضوا عليه رقابةً مشدّدة، بحيث لا يذيع شيئاً من دون مراجعة رأس السلطة.
أما الذي أغضب جمال عبد الناصر في تعليقات أحمد سعيد، وكما روى الأخير بلسانه، أنه لم يتمالك نفسه، حين طرحت مبادرة روجرز، عقب النكسة، ووجد اتجاهاً من جمال عبد الناصر للقبول بها، فتحوّل تعليقه اليومي إلى بركانٍ من الغضب والتحذير من هذه الخطوة الاستسلامية، ووصل الغضب بأحمد سعيد إلى أن قال، موجهاً الحديث إلى عبد الناصر، إنه في حالة الاستسلام لمبادرة روجرز والدخول في مفاوضات مع العدو، ودماء الجنود على رمل سيناء لم تجفّ بعد، فإن الأمة العربية لن تعجز عن أن تقدم "مصطفى شكري عشو" آخر لينقذها من هذا المصير.
كانت تلك العبارات هي القاصمة لعلاقة أحمد سعيد ب "صوت العرب" ونظام عبد الناصر، إذ أن مصطفى شكري عشو هو الفلسطيني الذي نفذ عملية اغتيال الملك عبد الله الأول، ملك الأردن، في ساحة المسجد الأقصى، عام 1951 بعد ذيوع أنباء دخول الملك مع الصهاينة في اتفاقيات تكرس احتلال فلسطين.
وبعد هذا التعليق مباشرة، أرسل وزير الإعلام، محمد فائق، إلى أحمد سعيد من يقول له إنه من الواضح أن أعصابه مرهقة، وعليه أن يستريح في بيته حتى يهدأ، فكانت استقالته، أو بالأحرى إقالته، من "صوت العرب".
خلاصة القول إن عبد الناصر لم يصنع أحمد سعيد، كما أن الأخير لم يصنع زعامة الأول.. ونكسته.
أضف تعليقك