• الصلاة القادمة

    الفجر 04:23

 
news Image
منذ ثانية واحدة

الأستاذ جمعة أمين

قال ابن إسحاق : فبلغني أن ابن عمير بن كعب النضرى لقي أبا ليلى وعبد الله بن مغفل وهما يبكيان فقال : ما يبكيكما ؟

 

قالا : جئنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحملنا فلم نجد عنده ما يحملنا عليه وليس عندنا ما نتقوى به على الخروج معه فأعطاهما ناضحاً له فارتحلاه وزودهما شيئاً من تمر فخرجا مع النبي صلى الله عليه وسلم زاد يونس بن بكير عن ابن إسحاق قال : وأما علبة بن زيد فخرج من الليل فصلى من ليلته ما شاء الله ثم بكى وقال : اللهم إنك أمرت بالجهاد ورغبت فيه ثم لم تجعل عندي ما أتقوى به ولم تجعل في يد رسولك ما يحملني عليه وإني أتصدق على كل مسلم بكل مظلمة أصابني فيها مال أو جسد أو عرض .

 

ثم أصبح على الناس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أين المتصدق هذه الليلة ؟ فلم يقم أحد ثم قال : أين المتصدق فليقم )) فقام إليه فأخذه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((أبشر فوا الذي نفسي بيده لقد كتبت في الزكاة المتقبلة )) .

 

فالجهاد في سبيل الله بذل وتضحية وبذل المال والإنفاق في سبيل الله يقترن في القرآن غالباً بذكر الجهاد والقتال ولقد مرت على المسلمين مرحلة كان الجهاد فيها تطوعا والمجاهد يومئذ ينفق على نفسه وقد يقعد به المال حين لا يقعد به الجهاد { ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قل لا أجد ما أحمكم عليه ولوا وأعينهم فيض من الدمع جزنا ألا يجدوا ما ينفقون } التوبة : 92 ] . فلم يكن بد من الحث المستمر على الإنفاق ليسير الطريق للمجاهدين في سبيل الله كما ذكرنا وهنا جئ الدعوة إلى الإنفاق { من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرة } البقرة 245 ]. فنفق يمينه ما لا تعلم شماله .

 

فإذا كان الموت والحياة بيد الله والحياة لا تذهب بالقتال إذا قدر الله لها البقاء فكذلك المال لا يذهب بالإنفاق إنما هو قرض حسن لله مضمون عنده يضاعفه أضعافاً كثيرة يضاعفه في الدنيا مالا وبركة وسعادة وراحة ويضاعفه في الآخرة نعيماً ومتاعاً ورضى وقربى من الله ومرد الأمر في الغنى والفقر إلى الله لا إلى حرص وبخل ولا إلى بذل وإنفاق فأين يكون المال والناس أنفسهم راجعون بقضهم وقضيضهم إلى الله فلا فزع من الموت ولا خوف من الفقر ولا محيد عن الرجعة إليه وإذن فيجاهد المؤمنون في سبيل الله وليقدموا الأرواح والأموال وليستيقنوا أن أنفاسهم معدودة وأن أرزاقهم مقدرة وأنه من الخير لهم أن يعيشوا الحياة قوية طليقة شجاعة كريمة ومردهم بعد ذلك إلى الله { والله يقبض ويبسط وإليه ترجعون } البقرة 245 ].

 

التربية إبتداءً وانتهاء

لقد أنشأت التربية الإيمانية و الجهادية مجموعة من الناس تتمثل فيهم الأمانة والورع يرون الغنائم أمام أعينهم فلا تطلع أنفسهم إليها ولا تمتد أيديهم فيغلون إنما كانوا يتحرجون الغلول في أية صورة من صوره كما لم تتمثل قط في مجموعة بشرية وقد كان الرجل في أفناء الناس من المسلمين يقع في يده الثمين من الغنيمة لا يراه أحد فيأتي إلى أميره لا تحدثه نفسه بشيء منه خشية أن ينطبق عليه قول الله تعالى المرهوب : { وما كان لنبي أن يغل ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة ثم توفي كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون } آلا عمران : 161 ].

 

وخشية أن يلقى نبيه على الصورة المفزعة المخجلة التي حذره أن يلقاه عليها يوم القيامة .

 

فقد كان المسلم يعيش هذه الحقيقة فعلا وكانت الآخرة في حسه واقعاً وكان يرى صورته تلك أمام نبيه وأمام ربه فيتوقاها ويفزع أن يكون فيها وكان هذا هو سر تقواه وخشيته وتحرجه وهو يسمع لمقولة الرسول صلى الله عليه وسلم :(( يا أيها الناس من عمل لنا منكم عملا فكتمنا منه مخيطاً فما فوقه فهو غل يأتي به يوم القيامة ))فقام رجل من الأنصار أسود قال مجاهد : هو سعد بن عبادة كأني أنظر إليه فقال : يا رسول الله أقبل منى عملك قال : وما ذاك ؟ قال : سمعتك تقول : كذا وكذا قال : أنا أقول ذلك الآن من أستعملناه على عمل فليجئ بقليله وكثيره فما أوتى منه أخذه وما نهي عنه انتهي )) فالآخرة كانت حقيقة يعيشها المسلم لا وعداً بعيدا وكان على يقين لا يخالجه شك من أن نفس ستوفي ما كسبت وهم لا يظلمون .

 

روى ابن جرير الطبري في تاريخه قال : لما هبط المسلمون المدائن وجمعوا الأقباض أقبل رجل بحق معه فدفعه إلى صاحب الأقباض فقال الذين معه : ما رأينا مثل هذا قط ما يعدله ما عندنا ولا يقاربه فقالوا : هل أخذت منه شيئاً فقال : أما والله لولا الله ما أتيتكم به فعرفوا أن للرجل شأناً فقالوا : من أنت ؟ فقال : لا والله لا أخبركم لتحمدوني ولا غيركم ليقرظوني ولكنى أحمد الله وأرضى بثوابه فاتبعوه رجلاً حتى انتهي إلى أصحابه فسأل عنه إذا هو عامر بن عبد قيس .

 

وقد حملت الغنائم إلى عمر رضى الله عنه بعد القادسية وفيها تاج كسري وإيوانه لا يقومان بثمن فنظر رضى الله عنه إلى ما أداه الجند في غبطة وقال : إن قوما أدوا هذا لأميرهم لأمناء وفي رواية قال أحد الجالسين : يا أمير المؤمنين عففت فعفوا ولو رتعت لرتعوا .

 

ولقد ربى الإسلام المسلمين تلك التربية العجيبة التي تكاد أخبارها تحسب في الأساطير ونقلهم نقلة تصغر في ظلها الغنائم ويصغر في ظلها التفكير في هذا الأعراض ليلتمس المسلمون لمسات المنهج القرآني العجيب في تربية القلوب ورفع اهتماماتها وتوسيع أفاقها وشغلها بالسباق الحقيقي في الميدان الأصيل ألا وهو اتباع رضوان الله وهذا هو مجال الطمع ومجال الاختيار وهذا هو ميدان المكسب والخسارة وشتان بين من يبع رضوان الله فيفوز به ومن يطمع في عرض من أعراض الدنيا الفانية { من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموها مدحوراً ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكوراً كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظوراً انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلاً } الإسراء 18: 21 ].

 

هاجس الرزق - حاجة الجهاد للمال

إذا كان خوف الموت هو السبب الأول في الجبن فإن السبب الثاني ما يوسوسه الشيطان للإنسان من جانب الرزق وكيف يتوافر للأولاد ولذويه من بنين وبنات وزوجة إذا ذهب للحرب وإذا قدر له الشهادة فيها وكما استفاض الله ورسوله في البيان عن تحديد الآجال فقد استفاض الله ورسوله في بيان أن الرزق مقسوم .

 

وكم حرر الإسلام المجتمع الإسلامي من خوف الموت فقد حرره أيضاً من هم الرزق بالنسبة للإنسان نفسه الذي يكفل الأسرة وبالنسبة للأسرة نفسها فرداً فرداً يستوي في ذلك حالة السلم والحرب ذلك أن الرزق بيد الله { وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها } هود 6 ]. { ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم } فاطر : 2].

 

وقد أخبر سبحانه وتعالى أن الرزق في السماء محدد وأقسم سبحانه على أن ذلك حق واقع ولقد أقسم سبحانه { وفي السماء رزقكم وما توعدون فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون } الذاريات 22 - 23].

 

على أن صاحب الثراء العريض الذي يعمد على ثرائه غير ناظر إلى الله تعالى واهب الرزق والثراء قد يخسف الله به وبداره الأرض كما صنع بقارون أو يطوف ببساتينه ومزارعه طائف منه سبحانه فتصبح خاوية على عروشها كما فعل سبحانه بأصحاب الجنة التي قص علينا أمرهم في القرآن الكريم في سورة القلم .

 

وما من شك في أن السعي على الرزق مطلوب وأن من الذنوب ذنوباً لا يكفرها إلا السعي على الرزق وأن العمل الجاد الكادح إنما هو من سمات الإسلام كل ذلك حق ,إذا كان الرزق بيد الله وإّذا كان العمل مطلوباً فإن ما ينهي عنه الإسلام إنما هو هذه الصورة الجشعة القلقة التي تحاول اقتناص المال من السبل غير المشروعة أو التي ترى أن عبداً من عباد الله بيده الرزق إعطاءً ومنعاً وبيده الرزق زيادة ونقصاً أو أخذً وتركاً وقد حرر الإسلام بموقفه هذا المجتمع الإسلامي من أن يكون هم الرزق سببا في ضعفه أو ذلته .

 

حاجة الجهاد للمال :

والجهاد كما يحتاج للرجال يحتاج للمال ولقد كان المجاهد المسلم يجهز نفسه بعدة القتال ومركب القتال وزاد القتال لم تكن هناك رواتب يتناولها القادة والجند إنما كان هناك تطوع بالنفس وتطوع بالمال وهذا ما تصنعه العقيدة حين تقوم عليها النظم إنها لا تحتاج حينئذ أن تنفق لتحنى نفسها من أهلها أو من أعدائها إنما يتقدم الجند ويتقدم القادة متطوعين ينفقون هم عليها من أموالهم .

 

ولكن كثيرا من فقراء المسلمين الراغبين في الجهاد والذود عن منهج الله وراية العقيدة لم يكونوا يجدون ما يزودون به أنفسهم ولا ما يجهزون به من عدة الحرب ومركب الحرب وكانوا يجيئون إلى النبي صلى الله عليه وسلم يطلبون أن يحملهم إلى ميدان المعركة البعيد الذي لا يبلغ على الأقدام فإذا لم يجد ما يحملهم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع جزنا ألا يجدوا ما ينفقون كما حكى عنهم القرآن الكريم .

 

من أجل هذا كثرت التوجهات القرآنية والنبوية إلى الأنفاق في سبيل الله الإنفاق لتجهيز الغزاة وصاحب الدعوة إلى الجهاد دعوة إلى الإنفاق في معظم المواضع حتى جعل القرآن عدم الإنفاق تهلكة ينهي عنها المسلمون { وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين } البقرة : 195 ] فالإمساك عن الإنفاق في سبيل الله تهلكة للنفس بالشح وتهلكة للجماعة بالعجز والضعف وبخاصة في نظام يقوم على التطوع كما كان يقوم الإسلام ثم يرتقى بهم إلى مرتبة الإحسان وهي عليا المراتب في الإسلام وهي كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك )) وحين تصل النفس إلى هذه المرتبة فإنها تفعل الطاعات كلها وتنتهي عن المعاصي كلها وتراقب الله في الصغيرة والكبيرة وفي السر والعلن على السواء وهكذا يكل النفس في أمر الجهاد إلى الإحسان أعلى مراتب الإيمان .

 

الجهاد في سبيل الله وفضل النفقة عليه

الدين كما نعلم رأسه الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله ولما كان الجهاد هو بذل الجهد والطاقة في إعلاء كلمة الله ونصرة دينه والذود عن حياض المسلمين وحقوقهم وحرياتهم تعددت أوجه الجهاد فجهاد الحجة والبيان وجهاد القوة والرجال كما يكون بالمال ولما كانت الدنيا دار بلاء كان الجهاد كذلك { ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين } محمد - 31 ] يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ((جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم )) .

 

لذلك كان الجهاد هو التجارة الرابحة في الأجر كما أنه من أسباب العز والنصر { يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلك خير لكم إن كنتم تعلمون يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجرى من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين } الصف 1. - 13 ] وإلا كان الذل والصغار كما أخبر المصطفي صلى الله عليه وسلم بأنه : (( ما ترك قوم الجهاد في سبيل الله إلا سلط الله عليهم ذلاً لا ينزعه حتى يراجعوا دينهم )) ولذلك كان الصحابة منهم الباذل لماله حمية دينية أو منهم البائع لنفسه لعلمهم { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفي بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم } التوبة 111] .

 

فالرسول صلى الله عليه وسلم بمجرد أن حث المؤمنين على الجهاد في سبيل الله في غزوة العسرة وكان زمن مجاعة وجهد قال عثمان بن عفان رضى الله عنه : على مائة بعير بأحلاسها وأقتابها ثم لما حثهم أخرى قال عثمان : على مائة بعير بأحلاسها وأقتابها قم جاء بصرة دنانير كادت كفه تعجز عنها فوضعها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقلبها يقول : ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم غفر الله لك يا عثمان ما قدمت وما أخرت .

 

أما عبد الرحمن بن عوف فقد قدمت عير له من الشام تقدر بسبعمائة بعير تحمل طعاماً وثياباً وأدما فتصدق بها كلها في سبيل الله كما تصدق عمر بشطر ماله رضوان الله عليهم أجمعين والحديث في هذا الباب يطول عن إنفاق الصحابة رضوان الله عليهم المال في سبيل الله .

 

ولأن المال بمثابة الترس للإسلام يستجلب به العدد والعتاد وسائر وسائل الجهاد وليدفع به صولة أهل الكفر والإلحاد والعناد فهو المحور الذي تدور عليه رحى الحرب ويستعان به في الطعن والضرب فالمسلم يجاهد بنفسه وماله وقد فرض الله في أموال الأغنياء نصيبا مفروضا يصرف في الجهاد والمجاهدين في سبيل الله فيجوز أو يستحب للتاجر أن يصرف زكاته في هذه الحالة إلى المجاهدين في سبيل الله وفي المال حق سوى الزكاة فمن كان عنده زكاة وجب أن يساهم بقدر استطاعته كل حسب مقدرته والدرهم بسبعمائة درهم وعند الله أضعاف كثيرة وصدق الله إذ يقول : { لكن الرسول والذين أمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وألئك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون أعد الله لهم جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم } التوبة 88- 89 .

 

إن الله سبحانه قد يربى بالابتلاء كما أنه سبحانه قد يبتلى بالنعم والمؤمن الحق هو الذي لا يفرح بالنعمة إلا على أساس أنها توصل إلى مرضاة الله وأن المال قد يكون ابتلاء إذا أقبل وقد يكون ابتلاء إذا أدبر وقد يكون نعمة إذا أقبل وقد يكون نعمة إذا أدبر والمثل الأعلى هو ألا تجعل المال في إقباله وإدباره إلهاً يعبد من دون الله وأن نسموا بأنفسنا وألا نجعلها من عبيد المال وأن نحررها من رق الذهب والفضة وذلك بأداء حق الله والإنفاق في سبيله .

 

عن أبى واقد الليثى قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أوحي إليه أتيناه يعلمنا مما أوحى إليه فجئته ذات يوم فقال الله عز وجل يقول (( إنا أنزلنا المال لإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ولو كان لابن آدم واديا من ذهب لأحب أن يكون له ثان ولو كان له الثاني لأحب أن يكون له الثالث ولا يملأ جفون ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب )) .

 

ويقول صلوات الله عليه ((خلقان يحبهما الله عز وجل وخلقان يبغضهما الله عز وجل فأما اللذان يحبهما الله فحسن الخلق والسخاء وأما اللذان يبغضهما الله فسوء الخلق والبخل وإذا أراد الله بعبد خيراً استعمله في قضاء حوائج الناس )) .

 

الإنفاق والجهاد - لماذا الجهاد بالمال

روى مسلم والنسائي بسندهما عن أبى مسعود الأنصاري قال (( جاء رجل بناقة مخطومة فقال : يا رسول الله .. هذه في سبيل الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة كلها مخطومة )).

 

والرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث يرسم صورة لناحية خاصة من نواحي الجهاد هي : الجهاد بالمال أو التجهيز ويبين ثواب هذا اللون من ألوان الجهاد .

 

وأساس التحديد بسبعمائة ضعف قول الله تعالى { مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم } البقرة 261 ].

 

قال مكحول : المراد بالإنفاق : الإنفاق في الجهاد من الإعداد والاستعداد ويؤيد حديث النياق المخطومة وقال ابن عباس : في الجهاد يضاعف الله المال إلى سبعمائة ضعف .

 

قال ابن كثير : وهذا المثل { مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله } البقرة 261 ]. فيه إشارة إلى أن الأعمال الصالحة ينميها الله عز وجل لأصحابها كما ينمى الزرع لمن يذره في الأرض الطيبة وقد وردت السنة بتضعيف الحسنة إلى سبعمائة ضعف روى أحمد بسنده عن أبى هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( كل عمل ابن آدم يضاعف : الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما شاء الله )) .

 

ومن أجل ذلك يمكننا أ نقول : إن ثواب الإنفاق في الجهاد أعلى مراتب الثواب والله يضاعف لمن يشاء : أي بحسب إخلاصه في عمله والله وأسع في فضله عليم بمن يستحق ومن لا يستحق .

 

ولقد ركز الرسول صلى الله عليه وسلم على هذه الحقيقة تنشيطاً للهمم وقمعاً لكل المثبطات عن الإنفاق في سبيل الله فقال :((من أنفق نفقه في سبيل الله كتبت له بسبعمائة ضعف )).

 

وعن أبي هريرة رضى الله عنه أ ن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء سار وسار معه جبرائيل عليه السلام فأتى على قوم يزرعون في يوم ويحصدون في يوم كلما حصدوا عاد كما كان... قال :يا جبرائيل .. من هؤلاء ؟قال :هؤلاء المجاهدون في سبيل الله .. تضاعف لهم الحسنة بسبعمائة ضعف {وما أنفقتم منشئ فهو يخلفه } (سبأ  :39 )

 

ولذلك :أطلق الصحابة في ميدان الإنفاق في سبيل الله وتنافسوا في ذلك فكانت مظاهرة رائعة إن دلت فإنما تدل على إيمان متأصل وعقيدة راسخة فقد قدم أبو بكر ماله كله في سبيل الله فلما سأله الرسول صلى الله عليه وسلم ماذا أبقيت لأهلك ؟قال :أبقيت لهم الله ورسوله وكانت لعثمان موافق رائدة في مجال الإنفاق في سبيل الله ذكرنا بعضها .

 

لقد كان المال ذخيرة تبذل في وقت الشدائد في سبيل الله وتقدم فيه مصلحة الأمة قبل كل شئ وكان هذا البذل سبيل النصر ووسيلة النجاح وقد أخلفه الله عليهم ففاضت عليهم الخيرات في الدنيا أضعافاً مضاعفة عند الله ولهم في الآخرة جزيل الثواب .

 

وصدق الله العظيم إذ يقول : { وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون } البقرة -272

 

لماذا الجهاد بالمال :

للجهاد بالمال مغزى مميز وذاتية فريدة وحكم بالغة ...

 

من ذلك ما يلي :

 

أولا : يعتبر الجهاد بالمال اختبارا لقوة العقيدة ومقياسا لصدق الإيمان ووسيلة لتطهير النفس البشرية من الشح والبخل فمن غرائز الإنسان حب المال .. ولقد أشار القرآن ذلك فقال : { زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب } آل عمران 14 ] إن التضحية بالمال في سبيل الله مع حبه وتفضيل حب الله ورسوله لدليل قوى على العقيدة والإيمان .. ولقد عبر القرآن عن ذلك فقال الله تبارك وتعالى { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وما تنفقوا من شئ فأن الله به عليم } آل عمران 92 ] وليس هناك أدنى شك في أن أفضل مجالات الإنفاق هو الإنفاق في سبيل الله .

 

ثانيا: ومن الجهاد بالمال امتثال لأمر الله سبحانه وتعالى المالك الحقيقي والأصلي للمال فملكية الناس للمال ملكية حيازية مؤقتة ووسيلة لمساعدة الفرد على عبادة الله وعمارة الأرض وأصل ذلك قول الله تبارك وتعالى { آمنوا بالله ورسوله الذي آتاكم } النور 33] ولقد أمرنا الله في كثير من الآيات بإنفاق المال في سبيل الدعوة الإسلامية والذود عن الإسلام وقد وعد من يطيعه بالفوز برضائه والهداية إلى الطريق المستقيم فقد قال تعالى { والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين } العنكبوت 69 ].

 

ثالثا :يعطى الجهاد بالمال فرصة للمسلم المؤمن والذي رزقه الله سعة من المال ولم يؤت قدرات الجهاد بالنفس أن ينال ثواب الجهاد وشرفه وهؤلاء الذين أطلق عليهم القرآن بأولى الضرر وأصل ذلك قول الله تبارك وتعالى { لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولى الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ...} النساء 95 ] فجهاد الإنسان بماله يشعره بذاتيته ودوره في مجال الجهاد والذود عن الإسلام والمسلمين وقد أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك فقال :((من جهز غازيا في سبيل الله فقد غزا ومن خلفه في أهله بخير فقد غزا ))أخرجه الشيخان .

 

رابعا: وفي الجهاد بالمال ضرورة حتمية للمحافظة على أعراض المسلمين وأموالهم وتقوية اقتصاد الأمة الإسلامية فنحن نعلم أن الطواغيت والكفار والفراعنة ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله ويعتدون على المسلمين فينهبون أموالهم ويهتكون أعراضهم وييتمون أولادهم ويشردون شيوخهم .. وهذا ما نشاهده في فلسطين وأفغانستان وسوريا والفلبين ... ولابد لهؤلاء من قوة وعتاد لردعهم .. حتى ينقلبوا خاسرين ولقد صور القرآن العظيم ذلك تصويرا بليغاً فيقول الله تبارك وتعالى :{ إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون و الذين كفروا إلى جهنم يحشرون } الأنفال 36 ، أما الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ... فقال تعالى { و الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله و الذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقاً لهم مغفرة ورزق كريم } الأنفال 74 .

 

ففي الجهاد بالمال اختبار لقوة العقيدة وصدق الإيمان ودليل على إخلاص العمل لله ... وفي الجهاد بالمال امتثال لأمر الله سبحانه وتعالى ، وفي الجهاد بالمال فرصة لأولى الضرر أن ينالوا شرف وثواب الجهاد ، وفي الجهاد بالمال كل معاني التكافل و التعاون و التضامن بين المسلمين ضد الكفرة و الطواغيت و الفراعنة ، وفي الجهاد بالمال ضرورة المحافظة على أعراض المسلمين وشرفهم وكرامتهم وأموالهم حتى تتحقق العبودية لله وحده ويتحرر الناس من عبودية الطواغيت .

أضف تعليقك