قول الإمام ابن حجر العسقلاني: «إذا تكلم المرء في غير فَنِّهِ أتى بالعجائب».
وكم داهمتْنا في هذا العصر من عجائب، تجود بها قريحة كل راغب في لباس الشهرة، وكل توّاق إلى أن يتردد اسمه على الألسنة على طريقة الأعرابي الذي بال في بئر زمزم، هل تعرفونه؟
جاء في بعض كتب التراث أن الحُجاج بينما يطوفون بالكعبة ويغرفون الماء من بئر زمزم قام أعرابي فحسر عن ثوبه، ثم بال في البئر، فما كان من الحُجاج إلا أن انهالوا عليه بالضرب حتى كاد يموت، فخلّصه الحراس منهم، وجاؤوا به إلى الوالي فقال: لم فعلت هذا؟ قال الأعرابي: حتى يعرفني الناس فيقولون: هذا فلان الذي بال في بئر زمزم.
بينما نستعد لاستقبال شهر رمضان، ونستحضر فضائله ومعانيه، إذا بالكاتب المصري المعروف بفقر الضمير إبراهيم عيسى يطلُّ علينا من خلال قناة «الحرة» الأمريكية بنادرة الدهر، ويقول إنه استمع لعشرات الحُجج التي يسوقها الوعاظ من حكمة الصيام، لكنه لم يرَ في تلك العبادة حكمة سوى أنها قرار سيادي من الله، «إفعل ونحن نصوم»، بدون أن ندرك حكمة الصيام، هكذا يدّعي.
ابتداءً كان الأولى بالكاتب أن ينتقي كلماته عندما يكون الحديث عن الخالق، جل في علاه، فهو يصف الصيام بأنه قرار سيادي من الله، وكأنه يتحدث عن رئيس دولة، فاللائق في هذا المقام أن يستخدم المصطلحات الشرعية لا السياسية، فيقال: أمر إلهي أو تشريع إلهي.
وإحقاقا للحق، الحكمة من بعض التشريعات ليست جميعها جلِيّة، فقد يبين الشارع الحكمة من التشريع، وقد يستنبطها العلماء، وقد تكون مجهولة كتحريم أكل الخنزيز، فنلتزم بها امتثالا لأمر الله، لكن المشكلة أن الكاتب إبراهيم عيسى نفى الحكمة من الصيام وقد صرح بها القرآن الكريم. فالآية واضحة المعنى «يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» (البقرة: 183).
فالحكمة من فريضة الصيام التي افترضها الله في كافة الشرائع هي حصول التقوى، أي الوصول بالعبد إلى مرتبة التقوى، وذلك يتحقق عن طريق تقوية جانب المراقبة، حيث أن الصائم لا يطلع على أمر صيامه إلا خالقه، وعن طريق كسر العادة، وكبح جِماح النزعات الإنسانية، أفلا يكفي هذا البيان القرآني لكي يقتنع الكاتب بالحكمة من الصيام؟
على أن الصيام له حِكم أخرى يمكن استنباطها، وهي الشعور بالفقراء حين يذوق العبد طعم الجوع والعطش، مع قدرته على إتيان الطعام والشراب، فمن ثم تدفع هذه المشاركة أصحاب الأموال إلى البذل للفقراء، إضافة إلى أن اشتراك المسلمين في شعيرة واحدة على صفة واحدة بمواقيت محددة في الإمساك عن الطعام والإفطار يُنمّي الشعور بوَحدة الأمة.
وقد صرح الكاتب بأن الصيام مُضر بالصحة، وفق ما ذكر من أبحاث يقول إنها نسفت جميع هذه المفاهيم حول الفوائد الصحية للصيام، غير أنه لم يأتنا ببحث واحد يسميه لنا، مع أن الثابت هو العكس، حيث تثبت جميع الأبحاث العلمية الفوائد الصحية للصيام.
وقديما قالوا إن الصحة في أطراف الجوع، وما المعدة إلا بيت الداء، ولكن هل يدرك مثل إبراهيم عيسى ما ينفعة صحيا أشك في ذلك، فلو عقلت ما سمنت. ومن جهة أخرى إذا كان إبراهيم عيسى يرى أنه (قرار سيادي) لا تتضح الحكمة منه،
أفلا يقر بأن الله تعالى رحيم بعباده يُشرّع لهم ما فيه صالح دنياهم وآخرتهم؟ هل يشرّع الله تعالى لعباده ما يضر أجسادهم؟
لكنني لا أجد تفسيرًا لذلك فوق ما علّق به الأستاذ جمال سلطان رئيس تحرير صحيفة «المصريون» في معرض ردّه على حديث إبراهيم عيسى، حيث قال سلطان ما نصُّه:
«قناة الحرة الأمريكية منحت إبراهيم عيسى برنامجا، فشل بامتياز على مدار عدة أشهر في جذب أي متابعة، ولم يشعر به أحد، كنت واثقا أنه سيلجأ للحيلة الأخيرة الشهيرة «سب الدين» للفت الأنظار إلى برنامجه واصطناع الجدل حوله، يبدو أنه فعلها».
وكثيرا ما أثار إبراهيم عيسى الجدل بتناول ثوابت الدين وصحابة النبي صلى الله عليه وسلم، وأتذكر يوما أنه تلا في أحد برامجه قول الله تعالى:»هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ» (الحاقة: 29)، وهو يضع يده على رأسه مكررا: «سلطانية سلطانية» وهي وعاء من الخزف يُوضع به الطعام.
هل هذا هو الفكر المستنير؟ هل أصبح تناول النصوص الشرعية وأحكام الشريعة على هذا النحو الساخر لونا من ألوان الثقافة والتقدم؟
الأدهى والأمر، أن السلطات المصرية تمنع تصدُّر الدعاة المستقلين للفتوى والتعليم مهما كان علمهم غزيرًا، وتجعله قاصرًا على الحاصلين على شهادات أزهرية، بينما لم تتّخذ الإجراءات نفسها مع الإعلاميين والفنانين وغيرهم، ممن يتكلمون في الدين وهم ليسوا من أهل العلم بالشريعة، ومثل هذه السقطات المستفزة إنما تغذي التطرف والغلو، فكما قال طرفة بن العبد:
قد يَبعَثُ الأمرَ العَظِيمَ صغيرُهُ حتى تظلّ له الدماءُ تَصَبَّبُ
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
أضف تعليقك