الدكتور علي الصلابي
في شهر رمضان المبارك كانت أولى انتصارات المسلمين بقيادة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، فبعد أن استقرت دولة المسلمين في المدينة المنورة بات من الضروري أن يوسعوا نطاق الدعوة لخارج حدود المدينة. وكانت البداية حين بلغ المسلمون تحرُّكُ قافلةٍ تجاريَّةٍ كبيرةٍ من الشَّام، تحمل أموالًا عظيمة لقريش، يقودها أبو سفيان، ويقوم على حراستها بين ثلاثين، وأربعين رجلاً، فأرسل الرَّسول صلى الله عليه وسلم بَسْبَسَ بنَ عمرو؛ لجمع المعلومات عن القافلة، فلَّما عاد بَسْبَسُ بالخبر اليقين، ندب رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أصحابه للخروج، وقال لهم: "هذه عِيرُ قريش فيها أموالهم، فاخرجوا إليها؛ لعلَّ الله يُنْفِلُكُموها".
وكان خروجه من المدينة في اليوم الثاني عشر، من شهر رمضان المبارك، من السَّنة الثانية للهجرة، ومن المؤكَّد: أنَّه حين خروجه صلى الله عليه وسلم من المدينة، لم يكن في نيَّته قتالٌ؛ وإنَّما كان قصده عِيرَ قريش، وكانت الحالة بين المسلمين وكفار مكَّة حالة حرب، وفي حالة الحرب تكون أموال العدوِّ، ودماؤهم مباحةً، فكيف إذا علمنا: أنَّ جزءًا من هذه الأموال الموجودة في القوافل القرشيَّة، كانت للمهاجرين المسلمين من أهل مكَّة، قد استولى عليها المشركون ظلماً، وعدوانًا.
أرسل النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم اثنين من أصحابه إلى بدرٍ طليعةً، للتَّعرُّف على أخبار القافلة فرجعا إليه بخبرها: وقد حصل خلاف بين المصادر الصَّحيحة حول عدد الصَّحابة، الذين رافقوا النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم في غزوته هذه إلى بدرٍ، ففي حين جعلهم البخاري "بضعة عشر وثلاثمئةٍ". يذكر مسلمٌ: أنَّهم كانوا "ثلاثمئةٍ وتسعة عَشَرَ رجلاً"، في حين ذكرت المصادر أسماء ثلاثمئةٍ وأربعين من الصَّحابة البدريين.
كانت قوَّات المسلمين في بدرٍ، لا تمثِّل القدرة العسكريَّة القصوى للدَّولة الإسلاميَّة؛ ذلك: أنَّهم إنَّما خرجوا لاعتراض قافلةٍ، واحتوائها، ولم يكونوا يعلمون: أنَّهم سوف يواجهون قوَّات قريشٍ، وأحلافها مجتمعةً للحرب، والَّتي بلغ تعدادها ألفاً، معهم مئتا فرسٍ، يقودونها إلى جانب جمالهم، ومعهم القِيانُ يضربن بالدُّفوف، ويغنِّين بهجاء النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه، في حين لم يكن مع القوات الإسلاميَّة من الخيل إلا فَرَسَانِ، وكان معهم سبعون بعيراً يتعاقبون ركوبَها.
أولًا: بعض الحوادث أثناء المسير إلى بدر
حدثت بعض الحوادث في أثناء مسير النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ فيها من العِبَرِ والمواعظ الشَّيءُ الكثير:
1- إرجاع البَرَاء بن عازبٍ وابن عمر لصغرهما: وبعد خروج النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المدينة في طريقهم إلى ملاقاة عِير أبي سفيان وصلوا إلى (بيوت السُّقيا) خارج المدينة، فعسكر فيها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم ، واستعرض صلى الله عليه وسلم مَنْ خرج معه، فردَّ مَنْ ليس له قدرةٌ على المُضِيِّ مع جيش المسلمين، وملاقاة مَنْ يُحتَمَل نشوبُ قتالٍ معهم، فردَّ على هذا الأساس البَرَاء بن عازب، وعبد الله بن عمر؛ لصغرهما، وكانا قد خرجا مع النبي صلى الله عليه وسلم راغبين، وعازمَيْنِ على الاشتراك في الجهاد.
2- "فارجعْ فلن أستعينَ بمشركٍ": عن عائشةَ رضي الله عنها قالت: خرج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قِبَلَ بدرٍ، فلمَّا كان بِحَرَّةِ الوَبَرَةِ، أَدْركهُ رَجُلٌ، قد كان يُذْكرُ منه جُرْأَةٌ، ونَجْدةٌ؛ ففرِحَ أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رَأوْهُ، فلمَّا أدْرَكَهُ، قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: جئتُ لأتَّبِعَكَ، وأُصيبَ معَكَ، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تؤمنُ بالله ورَسُولِهِ؟" قال: لا، قال: "فارجعْ؛ فلن أستعينَ بمشركٍ". قالت: ثمَّ مضى، حتى إذا كنا بالشجرة أدركه الرجل، فقال له كما قال أول مرة، فقال له النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم كما قال أوَّل مرَّةٍ، ثمَّ رجع، فأدركه بالبَيْدَاءِ، فقال له كما قال أوَّل مرَّة: "تؤمنُ بالله ورسوله؟" قال: نعم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فانْطَلِقْ".
3- مشاركة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أصحابه في الصِّعاب؛ فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كنَّا يوم بدرٍ كلُّ ثلاثة على بعيرٍ، وكان أبو لُبَابَةَ، وعليُّ بن أبي طالبٍ زميلَيْ رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: وكانت عُقبَةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فقالا: نحن نمشي عنك، فقال: "ما أنتما بأقوى منِّي، ولا أنا بأغنى عن الأجر منكما".
ثانيًا: قرار لقاء المسلمين ببدر:
بلغ أبا سفيان خبرُ مسير النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، بأصحابه من المدينة، بقصد اعتراض قافلته، واحتوائها، فبادر إلى تحويل مسارها إلى طريق السَّاحل، في الوقت نفسه أرسل ضَمْضَمَ بن عمرو الغِفَاريَّ إلى قريشٍ يستنفرها؛ لإنقاذ قافلتها، وأموالها، فقد كان أبو سفيان يَقِظًا حَذرًا، يتلقَّط أخبار المسلمين، ويسأل عن تحرُّكاتهم، بل يتحسَّس أخبارهم بنفسه، فقد تقدَّم إلى بدرٍ بنفسه. وقد استطاع أن يعرف تحرُّكات عدوه، حتَّى خبر السَّريَّة المسلمة التي استطلعت المكان عن طريق غذاء دوابِّها، بفحصه البعر الَّذي خلَّفته الإبل؛ إذ عرف أنَّ الرَّجلين من المدينة؛ أي: من المسلمين، وبالتَّالي فقافلته في خطرٍ، فأرسل ضَمْضَمَ بنَ عمرٍو، إلى قريشٍ، وغيَّر طريق القافلة، واتَّجه نحو ساحل البحر.
كان وقع خبر القافلة شديدًا على قريشٍ؛ التي اشتاط زعماؤها غضبًا؛ لما يَرَوْنه من امتهانٍ للكرامة، وتعريضٍ للمصالح الاقتصاديَّة للأخطار إلى جانب ما ينجم عن ذلك من انحطاطٍ لمكانة قريشٍ بين القبائل العربيَّة الأخرى؛ ولذلك فقد سعوا إلى الخروج لمجابهة الأمر بأقصى طاقاتهم القتالية. لقد جاءهم ضَمْضَمُ بنُ عمرو الغِفَاريُّ بصورةٍ مثيرةٍ جدّاً، يتأثَّر بها كلُّ من رآها، أو سمع بها؛ إذ جاءهم وقد حوَّلَ رَحْلَه، وجَدَعَ أنفَ بعيره، وشقَّ قميصه من قُبُـلٍ، ومن دُبُـرٍ، ودخل مكَّة وهو ينادي بأعلى صوته: يا معشرَ قريش! اللَّطيمةَ اللَّطيمةَ! أموالكم مع أبي سفيان، قد عرض لها محمد مع أصحابه، لا أرى أن تُدْركوها، الغوثَ، الغوثَ.
وعندما أمن أبو سفيان على سلامة القافلة، أرسل إلى زعماء قريش وهو بالجُحْفَة، برسالةٍ أخبرهم فيها بنجاته، والقافلة، وطلب منهم العودة إلى مكَّة، وذلك أدَّى إلى حصول انقسامٍ حادٍّ في اراء زعماء قريش، فقد أصرَّ أغلبهم على التَّقدُّم نحو بدرٍ؛ من أجل تأديب المسلمين، وتأمين سلامة طريق التِّجارة القرشيَّة، وإشعار القبائل العربيَّة الأخرى بمدى قوَّة قريشٍ، وسلطانها، وقد انشق بنو زُهْرَة، وتخلَّف في الأصل بنو عديٍّ، فعاد بنو زُهْرَةَ إلى مكَّة، أمَّا غالبية قوَّات قريشٍ، وأحلافهم؛ فقد تقدَّمت، حتَّى وصلت بدرًا.
ثالثاً: مشاورة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لأصحابه:
عندما بلغ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم نجاةُ القافلة، وإصرارُ زعماء مكَّة على القتال، استشار رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أصحابه في الأمر، وأبدى بعضُ الصَّحابة عدم ارتياحهم لمسألة المواجهة الحربيَّة مع قريشٍ؛ حيث إنَّهم لم يتوقَّعوا المواجهة، ولم يستعدُّوا لها، وحاولوا إقناع الرَّسول صلى الله عليه وسلم بوجهة نظرهم، وقد صوَّر القرآن الكريم موقفَهم، وأحوال الفئة المؤمنة عمومًا، في قوله تعالى: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ *يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ *وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ *لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِل وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ *} [الآنفال5 ـ 8].
وقد أجمع قادة المهاجرين، على تأييد فكرة التَّقُّدم لملاقاة العدوّ، وكان للمقداد بن الأسود موقفٌ متميِّزٌ، فقد قال عبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنه: شهدت من الْمِقْدَاد بن الأسود مشهدًا، لأن أكونَ صاحِبَهُ أحبُّ إليَّ ممَّا عُدِلَ به: أتى النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم وهو يدعو على المشركين، فقال: لا نقول كما قال قوم موسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ}، ولكنَّا نقاتل عن يمينك، وعن شمالك، وبين يديك، وخَلْفك، فرأيت النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أشرق وَجْهُهُ وسَرَّه؛ يعني: قوله.
وبعد ذلك عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أشيروا عليَّ أيها النَّاس!" وكان إنَّما يقصد الأنصار؛ لأنَّهم غالبيةُ جنده. وقد أدرك الصَّحابيُّ سعدُ بن معاذ، حامل لواء الأنصار، مقصد النَّبيِّ الكريم؛ فنهض قائلاً: (والله! لكأنَّك تريدنا يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: "أجل"، فقال: لقد آمنا بك، وصدَّقناك، وشهدنا أنَّ ما جئتَ به هو الحقُّ، وأعطيناك على ذلك عهودنا، ومواثيقنا على السَّمع، والطَّاعة، فامضِ يا رسول الله! لما أردت، فنحن معك، فو الَّذي بعثك بالحقِّ! لو استعرضت بنا هذا البحر، فخُضْتَه لخُضْنَاه معك، ما تخلَّف منا رجلٌ واحدٌ، وما نكره أن تلقى بنا عدوَّنا غداً، إنَّا لصُبُرٌ في الحرب، صُدُقٌ عند اللِّقاء، ولعلَّ اللهَ يريك منا ما تَقَرُّ به عينك، فَسِرْ على بركة الله.
وسُرَّ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم من مقالة سعد بن معاذٍ، وزاد من همته ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: "سِيرُوا وأبشروا؛ فإنَّ الله تعالى قد وعدني إحدى الطَّائفتين، والله! لكأنِّي الآن أنظر إلى مصارع القوم". كانت كلمات سعدٍ مشجِّعةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وملهبةً لمشاعر الصَّحابة؛ فقد رفعت معنويات الصَّحابة، وشجَّعتهم على القتال، إنَّ حرص النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم على استشارة أصحابه في الغزوات، يدلُّ على تأكيد أهمِّية الشُّورى في الحروب بالذَّات؛ ذلك لأنَّ الحروب تقرِّر مصير الأمم، فإمَّا إلى العلياء، وإمَّا تحت الغبراء.
يصوِّر تعامل الرسول صلى الله عليه وسلم مع أصحابه، حيث كان أيُّ فرد من أفراد ذلك المجتمع يُدْلي برأيه، حتَّى في أخطر القضايا، ولا يكون في شعوره احتمال غضب القائد الأعلى صلى الله عليه وسلم، ثمَّ حصول ما يترتَّب على ذلك الغضب من تدنِّي سمعة ذلك المشير بخلاف رأي القائد، وتأخُّره في الرتبة، وتضرُّره في نفسه أو ماله. وعلى هذا النحو: إنَّ هذه الحرِّيَّة؛ الَّتي ربَّى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه، مكَّنت مجتمعهم من الاستفادة من آراء وخبرة جميع أهل الرَّأي السَّديد، والمنطق الرَّشيد، فالقائد فيهم ينجح نجاحًا باهرًا؛ لأنَّه ليس هناك ما يحول بين أيِّ فردٍ منهم، والوصول برأيه إلى قائد جيشه. ونلحظ عظمة التَّربية النَّبويَّة؛ الَّتي سرَتْ في شخص الحُبَاب بن المُنذر، فجعلته يتأدَّب أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتقدَّم دون أن يُطلب رأيه؛ ليعرض الخطة الَّتي لديه؛ لكن هذا تمَّ بعد السُّؤال العظيم، الَّذي قدَّمه بين يدي الرَّسول صلى الله عليه وسلم: "يا رسولَ الله! أرأيت هذا المنزل، أمنزلًا أنزلكه الله، ليس لنا أن نتقدَّمه، ولا نتأخر عنه؟ أم هو الرَّأي، والحرب، والمكيدة؟".
رابعاً: المسير إلى لقاء العدوِّ، وجمع المعلومات عنه:
نظَّم النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم جنده، بعد أن رأى طاعة الصَّحابة، وشجاعتهم، واجتماعهم على القتال، وعقد اللواء الأبيض، وسَلَّمه إلى مصعب بن عمير، وأعطى رايتين سَوْدَاوَيْن إلى سعد بن معاذٍ، وعليِّ بن أبي طالبٍ، وجعل على السَّاقة قيس بن أبي صَعْصَعَة. لقد كان من هدي النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، حرصه على معرفة جيش العدوِّ، والوقوف على أهدافه، ومقاصده؛ لأنَّ ذلك يعينه على رسم الخطط الحربيَّة المناسبة لمجابهته، وصدِّ عدوانه، فقد كانت أساليبه في غزوة بدرٍ في جمع المعلومات؛ تارةً بنفسه، وأخرى بغيره، وكان صلى الله عليه وسلم يطبِّق مبدأ الكتمان في حروبه.
فقد أرشد القرآن الكريم المسلمين إلى أهمية هذا المبدأ. قال تعالى: {وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً} [النساء: 83]. وكذلك نلحظ: أنَّ التَّربية الأمنيَّة في المنهاج النَّبويِّ مستمرةٌ منذ الفترة السِّرِّيَّة والجهريَّة بمكَّة، ولم تنقطع مع بناء الدَّولة، وأصبحت تنمو مع تطوِّرها، وخصوصاً في غزوات الرَّسول صلى الله عليه وسلم. إنَّ هذه النَّفسيَّة الرَّفيعة، عرفت أصول المشورة، وأصول إبداء الرَّأي، وأدركت مفهوم السَّمع والطَّاعة، ومفهوم المناقشة، ومفهوم عرض الرَّأي المعارض لرأي سيِّد ولد آدم صلى الله عليه وسلم. وتبدو عظمة القيادة النَّبويَّة في استماعها للخطَّة الجديدة، وتبنِّي الخطَّة الجديدة المطروحة من جنديٍّ من جنودها، أو قائدٍ من قوَّادها.
لقد كانت القوَّة المعنويَّة لجيش مكَّة، مصدرها في النُّفوس، وإن كان مظهره القوَّة، والعزم، والثبات، إلا أنَّ في مخبره الخوفُ، والجبنُ، والتردُّد يكلفها الطريق الصواب في النهج النبوية في إدارة الأزمات. فقد ذكَّر المولى ـ عزَّ وجلَّ ـ موقفه حبن قال: {إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا} أي: اذكروا أيها المؤمنون وقت أن خرجتم من المدينة، فسرتم حتَّى كنتم أي: بجانب {بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا}، وحافَّته الأقرب إلى المدينة المنوَّرة أي: والكفار بالجانب الأبعد الأقصى {وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى} الَّذي هو بعيد بالنِّسبة للمدينة ـ أي: وعِيرُ {وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ} سفيان ومن فيها كانت أسفل منكم من ناحية ساحل البحر الأحمر على بُعْدِ ثلاثة أميالٍ منكم. وقوله: تذييلٌ قُصِدَ به التَّرغيب في {وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ}، والتَّرهيب من الكفر، أي: لا يخفى عليه شيءٌ من أقوال أهل الإيمان، عليمٌ بما تنطوي عليه قلوبهم، وضمائرهم ـ وسيجازي ـ سبحانه ـ كلَّ إنسانٍ بما يستحقُّه مِنْ ثوابٍ، أو عقابٍ على حسب ما يعلم، وما يسمع عنه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع:
1- ابن حزم، جوامع السِّيرة، ص 107.
2- ابن سعد، الطَّبقات، 2/24.
3- ابن كثير، البداية والنِّهاية، 3/260.
4- ابن هشام، سيرة ابن هشام، 2/61.
5- أبي فارس، غزوة بدرٍ الكبرى، ص. ص 33 - 34.
6- تفسير الرَّازي، 15/173.
7- تفسير القرطبي، 8/25.
8- تفسير الكشَّاف للزَّمخشريِّ (2/160).
9- الحميدي، التَّاريخ الإسلاميُّ، 4/110.
10- خليفة بن خياط، الطَّبقات.
11- صالح بن عبد الله بن عبد الحميد، موسوعة نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، 1/286.
12- العمري، المجتمع المدني في عصر النبوة، ص. ص 138.
13- محمد آل عابد، حديث القرآن عن غزوات الرَّسول صلى الله عليه وسلم، 1/43.
14- المستدرك للحاكم، 3/632.
أضف تعليقك