بقلم الشهيد "حسن البنا"
ها هو السحاب ينقشع، والغيم ينجاب ويتكشَّف، والسماء تبسم عن غرة الهلال، كأنما هو قوس النصر أو رمز النور المبين.. إنه هلال رمضان.. الله أكبر الله أكبر، ربي وربك الله، هلال خير ورشد، إن شاء الله..
إنه هلال رمضان؛ شهر الأمة، وشهر الصوم، وشهر القرآن، وشهر المعاني السامية التي تفيض على قلوب من عرفوا حقيقة رمضان، واتصلوا بالملأ الأعلى فيه، وسمَت أرواحهم إلى مرتبة الفهم عن الله، وما لنا لا نتحدث إلى إخواننا الكرام من بدء الإسلام عن شهر رمضان، ونُطلعهم بخطرات النفس وخلجات الفكر، وهو شهر تفكره إضافة عميقة.
ربي وربك الله.. ربه الله؛ لأنه واحد، ورب واحد يتصرف في ملكوت السماوات والأرض، ويسيطر على عوالم الغيب والشهادة، ويتحكَّم في الكون من أقصاه إلى أقصاه، والجميع بعد ذلك في حق الوجود سواءٌ.. ﴿إِن كُلُّ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِى الرَّحْمَنِ عَبْدًا﴾ (مريم: 93).
إن الله هو الحاكم وحده، يحكم الأفلاك، ويحكم الأناس، ويهب لكلٍّ وجوده وهداه؛ فإن كان لأحد أن يتحكَّم في الأولى فيغيِّر مداراتها، ويقيِّد حركاتها؛ فإن له أن يتحكَّم في الثانية؛ فيغلّ أيدي الناس، ويتحكم في آجالهم وأرزاقهم، وليس ذلك إلا لله، فارْقَ بروحك أيها الأخ المسلم، واسمُ بنفسك عن أن تكون عبدًا لغير ربك، واعلم أن هذا المعنى مما يلفتك إليه النبي صلى الله عليه وسلم حين يجعل من سنته في تحية الهلال أن يقول: "ربي وربك الله" (المستدرك على الصحيحين للحاكم: 4/317 رقم 7767- تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا- دار الكتب العلمية- بيروت- الطبعة الأولى- 1411هـ/ 1990م، وسنن الترمذي، كتاب الدعوات، باب ما يقول عند رؤية الهلال: 5/504 رقم 3451، قال أبو عيسى: هذا حديث غريب- تحقيق أحمد شاكر وآخرين- دار إحياء التراث العربي- بيروت).
إنه هلال رمضان، فأما كثير من الناس فلا يفهمون من معناه إلا تجهيز المآكل والمشارب، وتحضير المطاعم والمناعم، وإعداد لوازم السحور والإفطار، وما يقوِّي شهية الطعام، ويوفِّر راحة المنام؛ لأن رمضان كريم، وهذا شأن الكرام!!
أما قوم آخرون فشهر رمضان عندهم شهر الراحة من عناء الأعمال، واللهو والتسلية في لياليه الطوال، وتقسيم الأوقات على الزيارات والسهرات؛ فهم في ليلهم بين لهوٍ وسمَر، وقتْل للوقت في مقاعد القهاوي والبارات، وتنقّل بين دور الملاهي "والصالات"، وفي نهارهم يغطُّون في نومهم، ويتكاسلون عن عملهم!.
هذان صنفان خسروا شهر رمضان وخسرهم، وهجروه وهجرهم، وهو حجَّة عليهم بين يدي ربهم، وشهيد على تقصيرهم وسوء تقديرهم.
وقوم آخرون صلوا وصاموا، وتعبَّدوا وقاموا، وهم لا يعلمون من ذلك إلا أنهم أُمروا فامتثلوا، وتعوَّدوا فعملوا، يرجون الله ويخافون عذابه، وأولئك لهم ثواب صيامهم، وأجر قيامهم، وجزاء أعمالهم إن شاء الله، والحسنة بعشر أمثالها، والله يضاعف لمن يشاء.
وبقي بعد كل أولئك جماعة آخرون، أدَّوا ما أمرهم الله به من صلاة وصيام وتلاوة وقيام ومسارعة إلى الخيرات وإحسان وصدقات، ولكنهم لم يقفوا عند ظواهر الأعمال؛ بل فهموا عن الله فيها، وعرفوا ما يراد بهم منها، وتغذَّت بصائرهم إلى لباب أسرارها، فعرفوا لرمضان معنى لم يعرِفْه غيرهم، وفازوا بربح لم يفُزْ به سواهم، واكتسبوا منه تزكية النفوس وتصفية الأرواح، وأولئك ذؤابة المؤمنين وصفوة العارفين.
فهِموا من فريضة الصوم وآداب القيام أنهم سيتركون الطعام والشراب، ويقلِّلون المنام، ويحرمون الجسوم هذه الثلاثة، وهي مادة حياتها، وقوام نشاطها؛ وإذن فليختفِ شبح المادة، ولينهزم جيش الشهوات، ولتتغلَّب الإنسانية بمعانيها السامية على هذا الجسم الذي احتلها من قديم؛ فعطَّل حواسَّها، وكتَمَ أنفاسها، وأطفأ نورَها، وكبَّلَها بما زيَّن لها من زخرف الشهوات وزائف اللذائذ.
استغنِ عن الطعام، فإذا استغنيت عنه فقد خلعت عن نفسك نِير عبوديته، وصِرت حرًّا من مطالبه، خالصًا من قيوده، واستغنِ عن الشراب، فإذا استغنيت عنه؛ فقد خلعت عن نفسك نِير عبوديته، وصرت حرًّا من مطالبه، خالصًا من قيوده، واستغنِ عن المنام وعن الشهوة، فإذا استغنيت فقد تحرَّرت، وقديمًا قيل: "استغن عمن شئت تكن نظيره، واحتج إلى من شئت تكن أسيره".
إنك إذا استغنيت عن كل ذلك صرت حرًّا طليقًا؛ وإذن فرمضان شهر الحرية، وإذا استغنيت عن ذلك تقلص ظل المادة، وأشرق نور الروح؛ وإذن فرمضان شهر الروحانية، وإذا استغنيت عن ذلك صَفَا فكرك، وتجلى سلطان نفسك؛ فكنت إنسانًا بكل معنى الكلمة؛ وإذن فرمضان شهر الإنسانية، وإذا استغنيت عن ذلك لم يجد الشيطان سبيلا إليك، ولم تلقَ نوازعُ الشر مطمعًا فيك؛ وإذن فرمضان شهر الخير الواضح المستنير.
مرحبًا بك يا شهر الخير، مرحبًا بك يا شهر الإنسانية الكاملة، مرحبًا بك يا شهر الروحانية الفاضلة، مرحبًا بك يا شهر الحرية الصحيحة، مرحبًا بك يا شهر رمضان.
أقبل أقبل، وأقم طويلاً في هذه الأمة الطيبة المسكينة، وألقِ عليها درسًا من هذه الدروس البليغة، ولا تفارقها حتى تزكي أرواحها، وتصفِّي نفوسها، وتصلح أخلاقها، وتجدِّد حياتها، وتُقيم موازين التقدير فيها؛ فتعلم أن المطامع أساس الاستعباد، وأن الشهوات قيود الأسر، وأن أساس الحرية الاستغناء، وأن الاستغناء يستتبع المشقة، ولكنها مشقة عذبة لذيذة؛ لأنها ستنتج الحرية، والحرية أحلى من الحياة.
هذا المقال نُشر في مجلة الإخوان المسلمين- السنة الأولى- العدد 23- صـ1: 3- 4 رمضان 1352هـ/ 21 ديسمبر 1933م.
أضف تعليقك