لا أتذكر السنة التي حدثت فيها واقعة استلامي دعوة من السفير الإسرائيلي بالقاهرة لحضور حفل الاستقبال السنوي الذي تنظمه السفارة، بمناسبة عيد الاستقلال! إلا أني أستطيع الجزم بأن هذا حدث في الفترة بين عامي 1999 و2002، ففي خلال هذا الفترة كنت أكتب زاوية يومية بجريدة "الأحرار"، بعنوان "كلام في الهواء"، وقد كتبت فيها عن هذه الواقعة!
لا أعرف إن كانت الدعوة وصلتني عبر البريد، أو عبر موفد للسفارة. فقد فوجئت بها ضمن بريد اليوم (البوستة)، ووجدت فيها تجرؤاً من قبل السفير، الذي ربما لم يطالع موقفي في قضية الصراع العربي- الإسرائيلي، ووجدتها فرصة لأتصل بالهاتف المدون بالدعوة وأطلبه، وقد أسمعته من الكلام ما لا يجوز نشره، وحذرته من العودة لإرسال مثل هذه الدعوات إليّ مرة أخرى. وقد كتبت عن هذا كله، وبعنوان جاء مختلفاً، فكان أرقاماً وليس كلاماً. وكان الرقم هو تلفون السفير، ودعوت المصريين للاتصال به، ليسمعوه رأيهم فيه وفي الكيان الذي يمثله!
وفي هذه السنة، فقد تأجل انعقاد حفل الاستقبال إلى أجل غير مسمى، ورغم تحذيري للسفير من التواصل معي، فقد وصلني منه كتاب يعتذر عن التأجيل، ورأيت أنه ربما استمتع بما قلته له، والناس فيما يعشقون مذاهب، ولذا فقد كتبت في زاوية "كلام في الهواء" أنني لن أسمعه ما يريد هذه المرة!
على ما أتذكر، فإن الحفل كان في "بيت السفير"، فكل احتفالات القوم كانت بين مقر السفارة بالجيزة أو بيت سفيرهم بضاحية المعادي، فلم يكن من السهل عليهم أن يعقدوا احتفالاتهم في الفنادق، ومع ذلك فقد حالت الظروف الأمنية دون الاحتفال وقتها في بيت السفير، ولا أتذكر أن القاهرة شهدت احتفالاً آخراً في الأعوام التالية، حتى قامت الثورة، وأرسلت رسالة للسفير الإسرائيلي بأنه شخصية غير مرغوب فيها، وإن أعطاهم ورثة مبارك "الأمان". وتمثلت هذه الرسالة في حصار السفارة، وإنزال العلم الإسرائيلي، لأول مرة منذ أن رفرف في سماء القاهرة، كنتاج لمعاهدة السلام التي وقعها السادات مع الإسرائيليين برعاية أمريكية!
ولم نكن نعلم أنه سيصل بنا الحال حد أن يقيم الإسرائيليون احتفالاهم بعيد قيام دولتهم واستيلائهم على الأراضي العربية؛ في فندق يطل على النيل، كما يطل على ميدان التحرير، فضلاً عن أنه ملاصق لجامعة الدول العربية، "الجدار في الجدار"، وهو أمر أكبر من أن نحمله لإدارة فندق "الريتز كارلتون"، وهي مدانة بكل لغات الدنيا، فأهل مصر الذين هم أدرى بشعابها، يدركون تماماً أنه ليس مسموحاً لأي فندق أن يعقد مؤتمراً سياسياً، ولو كان حفل تأبين لميت، إلا بموافقة أمنية، وفي حالة احتفالية السفارة، لا بد أن يكون هذا بقرار من أعلى سلطة في البلاد، إن لم تكن السلطة هي من قدمت هذا العرض الكريم؛ بأن يكون الاحتفال في هذه السنة، في "الريتز كارلتون"، فالذي يزمر لا يغطي لحيته، وأهل الحكم في القاهرة يعتبرون أن إسرائيل أقرب إليهم من حبل الوريد!
ومهما يكن، فيحدث أن يكمن الخير في الشر، فقد كان الاحتفال بعيد اغتصاب إسرائيل للأرض العربية، في قلب القاهرة مناسبة لنقف على أن الدم لم يتحول إلى ماء. فرغم مرور كل هذه السنوات على توقيع معاهدة السلام مع إسرائيل، فلا يزال الموقف منها ثابتاً، وكما فشل التطبيع في عهد مبارك، فسوف يفشل في عهد السيسي!
مبارك استهل عهده بالسماح لإسرائيل بالمشاركة في المعرض التجاري الصناعي بأرض المعارض، والذي شهد مظاهرات عارمة، أدرك مبارك وقتها أن الوقت ليس مناسباً ليتقرب من الإسرائيليين من هذا الباب، فلم يسمح لها بالمشاركة في الأعوام التالية، وصار التطبيع محصوراً في المجال الزراعي، عبر وزارة الزراعة، ولا أظن أن السيسي سيرضخ لإرادة الجماهير التي استنكرت فعلته هذه!
فمبارك كان يتمتع بشرعية الأمر الواقع، ولم يكن بحاجة للتقرب للإسرائيليين بالنوافل خارج قسمته فيما يملك، على العكس من عبد الفتاح السيسي الذي يغتصب السلطة، وضنت عليه الجماهير بإرادتها، لكنه حكم بالقوة، وبقمع معارضيه، واختطاف منافسيه، فقرر شراء الشرعية الخارجية، بالمال والمواقف، ويدرك أن رضى إسرائيل هو باب المرور للبيت الأبيض!
الخير الكامن في الشر تمثل في ردة الفعل عبر السيوشيال ميديا من المصريين، والتي أكدت أن السلطة لم تنجح في إدخال الغش والتدليس عليهم وتضليلهم حد التسليم بأن إسرائيل صديق لهم. وكان الهجوم على الاحتفال سبباً في عدم جهر من شاركوا فيه من المصريين بالمعصية، فلم تتسرب سوى أسماء قليلة، ومن "عماد أديب" إلى "شاهيناز النجار". والأول هو لسان حال أهل الحكم في المملكة العربية السعودية، والثانية امرأة بلا وزن سياسي أو حضور جماهيري، فقد فازت بأموالها في انتخابات مجلس الشعب قبل سنوات، وقبل أن يتزوجها رجل الحزب الحاكم "أحمد عز" ويدفعها للاستقالة، وقد طلقت منه بعد سجنه، لتعود إلى عصمته بعد خروجه من السجن، وهى شخصية مضطربة تبحث عن أي دور!
ولإدراك من شاركوا في الاحتفال، بأنهم ارتكبوا جريمة الفعل الفاضح في الطريق العام، فلم يعلنوا عن أنفسهم ويدافعوا عن موقفهم، والبعض في السابق كان يشارك ويعلن ويبرر، لكن الأمر مختلف هذه المرة، مع أن الاحتفال تم برعاية السلطة الحاكمة التي تتقرب إلى الاسرائيليين بالنوافل ليقربوهم من الأمريكان زلفى!
مهما فعلتم فلا فائدة!
أضف تعليقك