التحق هلباوي 2011 بثورة يناير فعاد من منفاه الطويل إلى الوطن معززاً مكرماً.. ثم انخرط في مشروع الانقلاب عليها، فعاد إلى المنفى، يخشى العودة، فتدهسه جنازير الثلاثين من يونيو.
تلك، باختصار، هي المسألة التي ينبغي على السيد الهلباوي أن يواجه نفسه بها، وقبل أن يخترع مشروع مصالحةٍ تقوم على اعتذار القتيل للقاتل، كان عليه أن يعالج هذه الإشكالية الوجودية مع نفسه، فيعالج ما تصدّع بين هلباوي الثورة و هلباوي الانقلاب.
دعنا نفترض أن السيد كمال الهلباوي، الإخواني القديم (سابقاً) جاد جداً، ومشغول فعلاً بقضية المصالحة السياسية في مصر، ذلك أن أحداً لا يملك الحق في محاكمة النيات، أو مصادرة الرغبات في الحضور والوجود.
دعنا نقول إن ما طرحه الهلباوي، بوصفه معبراً عن نموذج الإسلام السياسي، المفضّل عند عبد الفتاح السيسي، ذلك النموذج المنتمي لمشروع انقلابه، هو من بنات أفكاره، وليس رسالةً موجهة لاختبار الإرادات والنيات.
دعنا نتجاهل، كذلك، أن ما تسمى مبادرة الهلباوي، تعبر عن قلق حقيقي من صاحبها على مستقبل البلاد والعباد.
السؤال الأساس هنا: هل يتصوّر السيد الهلباوي، عضو المجلس القومي لحقوق إنسان 30 يونيو، أن عبد الفتاح السيسي مهمومٌ بإنجاز مصالحة وطنية؟
هل يمكن أن يتعاطى بإيجابيةٍ مع مبادرة تبحث عن مصالحة المجتمع على نفسه؟ الشاهد أن السيسي يستمد وجوده في الحكم من هذه الحالة من الانقسام المجتمعي الفادح، ولا يستطيع أن يبقى من دون مواصلة شحن جمهوره ضد عدو داخلي مصطنع، يستخدمه فزّاعة في وجه قطاعاتٍ شعبيةٍ أنهكها التردّي في أحوال المعيشة، وأرهقها الخراب الاقتصادي. كما يستخدمه شماعةً لتبرير قتل الحريات وتغييب الديمقراطية وإخراس ألسنة النقد والاحتجاج، بحجة حماية الوطن من السقوط.
في أحدث وصلة ثرثرةٍ وهذيانٍ قومي، تحدث السيسي، قبل يومين فيما تسمى الندوة التثقيفية للقوات المسلحة، محدّداً بوضوح مفهومه للمصالحة وللتعايش، ذلك المفهوم الذي يبدأ وينتهي بالعلاقة مع الكيان الصهيوني، كاشفاً عن أن المصالحة الوحيدة التي يمكن أن تشغل باله هي مع إسرائيل.
في هذه الثرثرة، يجدد السيسي اعتقاده بأن العدو في الداخل، وليس إسرائيل، فيقول حرفياً "بعد 1967.. الوجدان اتشكل على عداوة شديدة (لاسرائيل) واستعداد للقتال للآخر.. احنا بنتكلم (النهارده) بعد 50 سنة عندما تشكل وجدان جديد ووعى آخر وحالة جديدة في نفوس الناس هي حالة السلام والتشبث به".
في السابق، كان نظام السيسي يطيّر عصافير المصالحة الوطنية في الفضاء، كلما استشعر قلقاً خارجياً من الأوضاع في مصر، في لحظاتٍ كانت تتشكل فيها ملامح معارضة ضاغطة، في الخارج والداخل، تستفزّها مقصلة الإعدامات الجماعية، ويحرّكها، ولو بشكل محدود، التفريط في الأرض، فيسارع إلى توجيه رسائل إلى الأطراف الإقليمية الغاضبة، من جهةٍ، ومن جهة أخرى إثارة الاشتباكات بين الجماعة الوطنية، بما يقطع الطريق على أية فرصةٍ للالتقاء بين الإسلاميين والتيارات السياسية الأخرى، وإشعال مواقد الاتهام بالصفقات السرية.
أما هذه المرة، مع مبادرة السيد الهلباوي، فإن السيسي في موقفٍ أقوى مما سبق، على مستوى الداخل والخارج، ومن ثم لا يوجد ما يجبره على إطلاق بالون مصالحةٍ في الهواء، وإن كان نظامه لم يفوّت فرصة استغلالها في إظهار نوعٍ من الاستعلاء والغطرسة والسخرية بمواجهة مثل هذه الدعوات، ليقرّر عبر أبواقه السياسية والإعلامية أن هذا النوع من الأفكار ممنوعٌ من التداول في الساحة المصرية، بل إن مجرّد طرحها، بحد ذاته، خيانةٌ وطنيةٌ وتهديدٌ للأمن القومي.
أسوأ من ذلك أن سلطة السيسي استثمرت الموقف في صناعة صورةٍ تقول مفرداتها إن المشروع المناوئ لها بات يستجديها لإبرام صفقةٍ معه، ويتسول المصالحة منها، فلا يجد إلا الرفض والسخرية، على نحو يسيء للموقف المبدئي المحترم لأولئك الصامدين في الزنازين، خصوصاً وأن مطلقي هذا النوع من المبادرات يغلفونها عادة بكلامٍ فخمٍ عن إنهاء مأساة المسجونين والمعتقلين، وكأنهم يتحدّثون باسمهم، أو حصلوا على توكيلاتٍ بالتفاوض نيابة عنهم.
أضف تعليقك